الحكمة من تحريم الزنى
الزنى معصية من كبائر الذنوب وقد سماه الله فاحشةً, فقال: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ...﴾
وسماه سفاحاً, فقال: ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ...﴾ [النساء: 24], والسفاح الزنى»
وسماه عنتاً, فقال: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ ...﴾ [النساء: 25] والعنت الزنى
وسماه بغاءً, فقال: ﴿وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ ...﴾ [النور: 33] والبغاء الزنى
ومفاسد الزنى, وأضراره عظيمة جداً, سواء على الفرد, أو الأسرة, أو المجتمع, أو الأمة.
ومن أحسن من تكلم عن مفاسد الزنى ابن القيم - رحمه الله - وننقل طرفاً من كلامه حول هذه المفاسد.
قال - رحمه الله -: «مفسدة الزنى من أعظم المفاسد، وهى منافية لمصلحة نظام العالم في حفظ الأنساب، وحماية الفروج، وصيانة الحرمات.. وهي تلي مفسدة القتل, في الكبر؛ ولهذا قرنها الله - سبحانه - بها, في كتابه, ورسوله ﷺ في سـنته، قال الإمام أحمد: «لا أعلم بعد قتل النفس شيئاً, أعظم من الزنا، وقد أكد - سبحانه - حرمته بقوله : ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ...﴾ [الفرقان: 68], فقرن الزنا بالشرك, وقتل النفس, وجعل جزاء ذلك الخلود في النار, في العذاب المضاعف المهين ما لم يرفع العبد موجب ذلك بالتوبة والإيمان والعمل الصالح، وقد قال - تعالى - : ﴿وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً﴾ [الإسراء: 32] فأخبر عن فحشه في نفسه, وهو القبيح الذي قد تناهى قبحه, حتى استقر فحشه في العقول، حتى عند كثير من الحيوانات.
كما ذكر البخاري في صحيحه عن عمرو بن ميمون الأودي t قال: (رأيت في الجاهلية قردا, زنى بقردة فاجتمع القرود عليهما, فرجموها, حتى ماتا).
ثم أخبر عن غايته بأنه : (ساء سبيلاً) فإنه سبيل هلكة, وبوار, و افتقار فى الدنيا، وسبيل عذاب, وخزي, ونكال, فى الآخرة، وعلق - سبحانه - فلاح العبد على حفظ فرجه منه, فلا سبيل له إلى الفلاح بدونه, فقال : ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ..﴾ إلى قوله - تعالى - : ﴿فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾ [المؤمنون: 1-7] وهذا يتضمن ثلاثة أمور : من لم يحفظ فرجه لم يكن من المفلحين، وأنه من الملومين، ومن العادين، ففاته الفلاح, واستحق اسم العدوان، ووقع فى اللوم، فمقاساة ألم الشهوة ومعاناتها, أيسر من بعض ذلك..)
ثم قال - رحمه الله - : «.. والمرأة إذا زنت, أدخلت العار على أهلها, وزوجها, وأقاربها ونكست رؤوسهم بين الناس، وإن حملت من الزنى: فإن قتلت ولدها, جمعت بين الزنى والقتل، وإن حملته على الزوج, أدخلت على أهله, وأهلها أجنبيا, ليس منهم ، فورثهم وليس منهم، ورآهم وخلا بهم، وانتسب إليهم, وليس منهم.. إلى غير ذلك من مفاسد زناها...وأما زنى الرجل, فإنه يوجب اختلاط الأنساب أيضا, وإفساد المرأة المصونة، وتعريضها للتلف والفساد, وليس بعد مفسدة القتل أعظم من مفسدته، ولهذا شرع فيه القتل على أشنع الوجوه وأفحشها وأصعبها، ولو بلغ العبد أن امرأته أو حرمته, قتلت, كان أسهل عليه من أن يبلغه أنها زنت.
وعن سعد بن عبادة t (لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح, فبلغ ذلك رسول الله r فقال: أتعجبون من غيرة سعد؟ والله, لأنا أغير منه, والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش, ما ظهر منها, وما بطن) متفق عليه
وخص سبحانه حد الزنا من بين سائر الحدود بثلاث خصائص :
إحداها: القتل فيه بأشنع القتلات، وحيث خففه جمع فيه بين العقوبة على البدن بالجلد, وعلى القلب بتغريبه عن وطنه سنة.
الثانية: أنه نهى عباده أن تأخذهم بالزناة رأفة في دينه؛ بحيث تمنعهم من إقامة الحد عليهم؛ فإنه - سبحانه - من رأفته بهم, ورحمته بهم, شرع هذه العقوبة؛ فهو أرحم منكم بهم، و لم تمنعه رحمته من أمره بهذه العقوبة؛ فلا يمنعكم أنتم ما يقوم بقلوبكم من الرأفة من إقامة أمره.
الثالثة: أنه سبحانه أمر أن يكون حدُّهما بمشهد من المؤمنين، فلا يكون في خلوة بحيث لا يراهما أحد، وذلك أبلغ في مصلحة الحد, وحكمة الزجر.
وحدُّ الزاني المحصن : مشتق من عقوبة الله - تعالى - لقوم لوط بالقذف بالحجارة؛ وذلك لاشتراك الزنى واللواط في الفحش، وفى كل منهما فساد, يناقض حكمة الله في خلقه وأمره...)
وقال - رحمه الله -: «... والزنى يجمع خلال الشر كلها, من قلة الدين، وذهاب الورع ، وفساد المروءة، وقلة الغيرة، فلا تجد زانيا معه ورع, ولا وفاء بعهد, ولا صدق في حديث, ولا محافظة على صديق, ولا غيرة تامة على أهله، فالغدر, والكذب, والخيانة, وقلة الحياء, وعدم المراقبة, وعدم الأنفة للحرم, وذهاب الغيرة من القلب, من شعبه وموجباته.
ومن مفاسده : أنه يسلبه أحسن الأسماء, وهو اسم العفة, والبر, والعدالة, ويعطيه أضدادها, كاسم الفاجر, والفاسق, والزاني, والخائن.
ومنها أنه يسلبه اسم المؤمن, كما في الصحيحينعن النبي ﷺ قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن...) فسلبه اسم الإيمان المطلق, وإن لم يسلب عنه مطلق الإيمان.
ومنها أن يعرض نفسه لسكنى التنور الذي, رأى النبي ﷺ فيه الزناة والزواني
ومنها: أنه يفارقه الطيب الذي وصف الله به أهل العفاف، ويستبدل به الخبيث الـذي وصـف الله - تعـالـى - بـه الـزنـاة، كمـا قـال الله - تعـالـى -: ﴿الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ...﴾ [النور: 26].
ومنها ضيقة الصدر, وحرجه, فإن الزناة يعاملون بضد قصودهم, فإن من طلب لذة العيش, وطيبه بما حرمه الله عليه, عاقبه بنقيض قصده, فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته, ولم يجعل الله معصيته سببا إلى خير قط،
ولو علم الفاجر ما في العفاف, من اللذة والسرور وانشراح الصدر, وطيب العيش, لرأى أن الذي فاته من اللذة, أضعاف أضعاف ما حصل له...)
ومن مفاسد الزنى كذلك: أن الزاني ينزع منه نور الإيمان, قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ t: «يُنْزَعُ مِنْهُ نُورُ الإِيمَانِ فِي الزِّنى»
ومنها: اختلاط الأنساب, وكثرة اللقطاء, وأولاد الزنى, الذين قد لا يجدون الرعاية الكافية، والتربية السليمة، وإن وجدوا, فلا بد أن تظهر آثار زنى والديهم على نفسياتهم, في الغالب، وكثير منهم يغلب عليه طابع الانعزال عن المجتمع, والعدوانية، و الحقد على من حولهم؛ وربما أصبحوا بيئة خصبة للجرائم، والانحراف السلوكي..
ومنها: انتشار بعض الأمراض الوبائية، كمرض نقص المناعة (الإيدز)، والزهري ، والسيلان، فإنه من المقرر عند الأطباء, أن من أبرز أسباب انتشار هذه الأمراض الزنا.
وأضرار الزنا ومفاسده كثيرة؛ ولذلك فهو مستقبح من قديم الزمان, لدى ذوي العقول الراجحة, والفطر السليمة.
وقد كان من العرب في الجاهلية من يتجنب الزنى، بل في وقتنا الحاضر, لايزال كثير من العقلاء في جميع الأمم يستقبحونه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «أكثر عقلاء بني آدم, لا يسرقون ولا يزنون, حتى في جاهليتهم, وكفرهم, فإن أبا بكر t وغيره, قبل الإسلام, ما كانوا يرضون أن يفعلوا مثل هذه الأعمال, ولما بايع النبي ﷺ هند بنت عتبة بن ربيعة, أم معاوية, بيعة النساء على أن لا يسرقن, ولا يزنين, قالت: أو تزني الحرة؟فما كانوا في الجاهلية يعرفون الزنى إلا للإماء