بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أمَّا بعد إخـواني في الله: اتقوا الله تعالى ، وراقبوه جلَّ في علاه مراقبة من يعلم أن ربَّه يسمعُه ويراه ، ومن اتقى الله وقاه وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه ؛ وتقوى الله جل وعلا : عملٌ بطاعة الله على نورٍ من الله رجاء ثواب الله ، وتركٌ لمعصية الله على نورٍ من الله خيفة عذاب الله.
إخوني في الله تعالى : لا يخفى عليكم ما جعل الله تبارك وتعالى لأهل العلم وحملته من مكانةٍ علية ومنزلةٍ رفيعة ومقامٍ سام ؛ نعم -إخواني- لقد شرَّف الله العلماء وأعلى قدرهم ورفع مكانتهم وميَّزهم عن غيرهم ، قال الله تعالى : ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر:9] وقال الله تعالى: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة:11] ، ومما شرَّف الله سبحانه وتعالى به العلماء أن قرن جل في علاه شهادتهم بشهادته في أعظم وأجلِّ مشهودٍ به وهو توحيده سبحانه ، قال الله تعالى : ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران:18] . والعلماء -إخواني- تضع ملائكة الله أجنحتها لهم خضعانًا لقولهم ، ويستغفر لهم من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء ، وفضل العالم الواحد على العدد الكبير من العبَّاد والصلحاء كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب ، كيف لا -إخـواني- وهم ورَّاث الأنبياء ، فإن الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه لم يورِّثوا دينارًا ولا درهما وإنما ورَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظٍ وافر .
وإذا كان العلماء بهذا الشرف العظيم والمقام العلي ورثة أنبياء الله وأصفيائه عليهم صلوات الله وسلامه ؛ فإن الواجب أن يُعرف لهم قدرهم وأن تُرعى لهم مكانتهم ، فإن الوارث إخواني قائم مقام المورِّث فله حكمه فيما قام مقامه فيه . ويكفي ذلك دلالةً على شرف العلماء وعظيم مكانتهم ورفيع منزلتهم ، ولهذا -إخـواني- فإن من لا يرعى للعلماء هذه المكانة ولا يعرف لهم هذا القدر فليس من الأمة ؛ أمة محمد عليه الصلاة والسلام ، ففي مسند الإمام أحمد ومستدرك الحاكم من حديث عبادة بن الصامت بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا ، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا ، وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ)) .
إخواني : وإن من مكانة العلماء وأمرهم العظيم في الأمة أن المعوَّل عليهم في بيان الأحكام وفتوى العباد وإيضاح الشريعة وبيان المصالح والمفاسد والإجابة عن سؤالات الناس ، فإن المعوَّل عليهم دون غيرهم كما أمر الله سبحانه وتعالى بذلك في قوله: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأنبياء:7] .
إخواني : ومن شأن أهل العلم الراسخين فيه أنهم عندما يُفتون العباد ويقرِّرون الأحكام يفتون عن أناةٍ ورويَّة وحُسن نظرٍ وتأمل في نصوص الشريعة ومقاصدها العظام وأدلتها البينات ، فعن رويةٍ يُفتون ، وعن أناة يجيبون ، وعن حسن نظر في دلائل القرآن والسنة يحكمون .
نعم إخواني إن العلماء الراسخين في العلم لا يلقون الأحكام جُزافا ، ولا يفتُّون في صفوف المسلمين ، ولا يخلخلون صفوف المسلمين فتًّا وإرجافا ، ولا يتسرعون إلى الفتوى والأحكام دون تدقيقٍ وتحقيقٍ تسرعًا وإسرافا . هذا شأن العلماء إخواني ، والواجب على الأمة أن يكون تعويلها في معرفة أحكام الشرع وواجبات الدين على أهل العلم الراسخين .
إخواني في الله: وعندما يكون المعوَّل في ذلك على العلماء تنتظم مصالح الأمة ، وتتحقق مقاصدها ، وتنال الخيرية وتتحقق لهم السلامة ، وعندما لا يعوَّل على العلماء ولا يُرجع إليهم يكون أمر الناس في ضياع ومآلهم إلى ضلال، روى البخاري في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا)) .
إخواني في الله : وإنَّ الله جل وعلا قد أدَّب العباد في هذا المقام العظيم ولاسيما فيما يتعلق بمصالح الأمة الكبار وقضاياها الجسام مما يمسُّ أمن الأمة أو خوفها أو مصالحها الكبيرة ؛ أن لا يكون معولٌ في الاستفتاء إلا على العلماء الراسخين ، فإذا لم يُفعل ذلك ينثلُّ صرح الإسلام وينتثر نظامه ويتمكن الشيطان من الأمة ، وتأملوا في ذلك قول الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء:83] .
إخواني في الله : وإن من واجب الأمة نحو العلماء وتجاه الراسخين الأئمة الفضلاء أن يُعرف لهم قدرهم وأن تُرعى لهم مكانتهم وأن لا يُذكرون إلا بالخير والجميل ، ومن ذكرهم بغير الجميل فهو على غير السبيل .
إخواني في الله: ولنحاسب أنفسنا في هذه الحياة ، ولنزِن أعمالنا وأقوالنا ، ولنتذكر وقوفنا بين يدي الله جل وعلا وأن أعمالنا وأقوالنا كلها محصاة في كتابٍ لا يغادر صغيرةً ولا كبيرة إلا أحصاها ، وسيجد كل عامل ما قدَّم في هذه الحياة حاضرًا يوم القيامة ، ويومئذ يوفى العاملون أعمالهم ؛ فمن وجد خيرًا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه ، فالكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني .
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.