قرأتُ مقالاً للكاتب ( عبد الله فراج الشريف ) منشوراً في صحيفة عكاظ بتاريخ 3 / 12 / 1428 هـ ، وكان في ظاهره ردٌ على مقالٍ سابقٍ نُشَرَ بتاريخ 26/ 11 / 1428 هـ للشيخ ( إبراهيم بن عبدالله الدويش ) ، ويبدو لي للوهلة الأولى أن الكاتب في رده قد رمى بأحرف مقال الشيخ في قاع أحد البحار ولم يتبقَ منه إلا حرفين أو ثلاثة صاغ منها مقالاً ، فالمقال الأول في وادٍ وماكتبه الكاتب في وادٍ آخر مصحوباُ من قارئه بعلامات تعجبٍ لاحصر لها .
فقد ظهر منه مانربأ بالكاتب أن يقع فيه من لمز واضح لعلماء بلادنا الذين أفتوا بمنع قيادة المرأة للسيارة ، وعلى رأسهم المفتي السابق سماحة الشيخ : عبدالعزيز بن باز – رحمه الله – والحالي الشيخ : عبدالعزيز آل الشيخ – حفظه الله – وبقية أعضاء هيئة كبار العلماء ، والمدرسة السلفية بوجه عام بمنهجها الذي تأسست عليه الدولة وارتضاه أولو أمرنا حُكماً على النظام العام ، وقد تجلى ذلكَ في عنوان المقال ( أوهامكم ليست دليلاً شرعياً على التحريم ) من هم أصحاب الأوهام ؟! والمتحدث واحد فقط ! ، من الجهل أن يُظَنَّ بوجوب وجود نص صريح في كل مسألة ، فالكاتب وقع في خطأٍ كبيرٍ في حصره للأدلة المتفق عليها على دليلين فقط ، هما ( الكتاب والسنة ) ، وهذا مخالف لما أجمع عليه علماء الأمة ، فالأدلة هي أربعة ( الكتاب ، والسنة ، والإجماع ، والقياس ) فديننا الإسلامي أتى بأحكام كلية وأمر العلماء أن يستنبطوا منها الأحكام الجزئية ، وأن يبنوا الفروع على الأصول ، من خلال أدلة تابعة وهذا مايعرف بقواعد الاستدلال وطرقه ، ومنها قاعدة : سد الذرائع التي ظهر من الكاتب – هداه الله – التهكم بها ، فهل قاعدة سد الذرائع من اختراع العلماء وأوهامهم ؟! لقد قال ابن القيم - رحمه الله تعالى – ( باب سد الذرائع أحد أرباع التكليف ) ذكره بعد أن استشهد بـ ( 99 ) دليلاً من الكتاب والسنة ، فهل تلك هي أوهام أيضا ؟! ، وإن أراد الكاتب الزيادة في هذا الأمر فعليه بأمهات الكتب التي تطرقتْ لها ، ولكن قبل ذلك عليه أن يتخلص من الأوهام المسيطرة عليه !
يقول الكاتب في ثنايا مقاله ( البعض من هؤلاء الدعاة حوّل القاعدة الشرعية « سد الذرائع » لمعول يهدم به كل حق لها تطالب به، فهي في نظر هؤلاء مصدر كل الشرور، وخير وسيلة لتجنب شرورها وفتنها هو حبسها في بيتها، لا تخرج منه إلا محمولة على الأعناق لتوارى الثرى عند موتها )
هل المرأة لدينا في نظر الدعاة مصدر كل الشرور ؟
هل المرأة لدينا تحبس في البيت ولا تخرج منه إلا محمولة على الأعناق لتوارى الثرى عند موتها لا لذنب ٍ سوى أنها أنثى ؟
يبدو أن الكاتب قرأ عن وضع المرأة في العصر الجاهلي وعاش فيه ، ولم يستطع الرجوع للواقع المعاش حالياً ، فأسوار الزمان والمكان قد طوقت أفكاره !
ويواصل الكاتب بقوله ( بل ليس لها أن تمتنع من أن تكون ضرة لأخرى في عصمة رجل ، فعدم زواجها بمعدد للزوجات جريمة لا تغتفر، فهي بزعمهم إن رفضت الزواج به عارضت حكم الإسلام وتشريعه )
هل المرأة لدينا تعاقب بجريمة لاتغتفر – على حد قول الكاتب - إذا رفضت الزواج من مُعدد ؟
ليسمح لي الكاتب أن أقول له : أن خياله واسع جداً حيث صور له أموراً تحتاج دعوى وجودها لإثبات ، أم أن ماذكره هو مجرد كلمات أُلقيتْ جزافاً لتلبس المقال على العامة دونما سبر تام لمايلقيه قلمه والتي قد تدينه قبل أن تدين غيره !
والمشكلة أنه رمى بتلك الجمل دونما إيراد لنموذج واحد واقعي عانته المرأة بالفعل بسبب العلماء كحبس أو عقاب عند رفضها الزواج من مُعدد ؟! ، بل والأعجب من ذلكَ كله أنه بعد سرده لهذه المعاناة المُتخيلَة مارسَ تلبيساً مكشوفاً بقوله ( ولا تقولوا أن مثل هذا أقوال شاذة ، فالشاذ من الأقوال فقهاً بالنسبة للمرأة هو السائد، أما الحكم الثابت بالدليل فمغيب تماما إلا ما ندر ) فهل وصايته امتد نطاقها من النساء إلى القراء ؟!
وسأسوق نموذجين - على سبيل المثال لا للحصر - كشهادات غربية قد تروق للكاتب مصدريتها :
1-نشرتْ الكاتبة الانجليزية ( آني رورد ) في الصحافة البريطانية ، بعد أن زارت المملكة وملأها الانبهار وهي ترى مجتمعنا تملأه القيم والمثل العليا ، والمرأة معززة مكرمة ومرفهة تتمتع بمكانة لها الكثير من القدسية ، وتنعم بحياة هادئة تجنبها الأخطار والاستغلال ( ليتنا كالمسلمات محتشمات مصونات ننعم بأزواجنا وأولادنا كما ينعمن ) فهل نظر الكاتب إلى ماتريده هذه المرأة الغربية ، وتنبه إلى وصفها المهذب لاحتشام المرأة وحجابها ، وقارنَ بينه وبين ماذكرَهُ من وصف للحجاب بأنه ( أستار تُحمى بها المرأة من كل لون تعزلها عن الرجال حتى لايفتنوا بها وهي محجبة )
2-كتبتْ الكاتبة الأمريكية ( تانياسي هسو ) في جريدة ( عرب نيوز ) وترجمته جريدة الرياض ، ونشرته تحت عنوان (خطاب مفتوح للسعوديين في يوم الثلاثاء 30-4-1426هـ: مانصه ( ولم يمثِّل ارتدائي للحجاب، وعدم تمكُّني من قيادتي للسيارة خلال المدة التي قضيتها في المملكة أيّ مشكلة بالنسبة لي، بل سافرتُ بحجابي لأمريكا لأثبت لهم ذلك ) ، فالغرب يشهد لنساء السعودية وبعض من أبناء هذا الوطن يشهدون ضدها اتباعاً للهوى ! ، فقد قال ابن القيم – رحمه الله تعالى – ( وأصل كل فتنة إنما هو تقديم للرأي على الشرع ، والهوى على العقل ) ، وأربأ بهم أن يكونوا دعاةً للفتن !
ويتابع الكاتب بقوله ( ولكن الأوهام تعشعش في رؤوس الكثيرين فتجعل المباح محرما، فالنساء يقدنَ السيارات في شتى أرجاء العالم ) ، أرى أن الكاتب مازال يدور في دائرة لايوجد بها سواه ، فلمْ يخرج منها ليرى العالم من حوله كيف تعيش نساؤه ، فهل جميع النساء في العالم يقدن السيارة ؟! لمعلومية الكاتب أنه على مقربة من مدينة نيويورك توجد قرية أمريكية معتمدة من قبل الحكومة الأمريكية تحظر على النساء ملامسة مقود السيارة بل ويمتد المحظور إلى أن تجلس في المقعد الأمامي فلابد لها أن تجلس في الخلف مهما كان القائد ( ابنا ، أخاً ، زوجاً ، قريباً ) ويزداد المحظور في منع المرأة من السير برفقة الرجال في الطريق بل لابد لها من السير في جانب مختلف عن مسار الرجال !
ماسبق أعلنه الناطق باسم هذه القرية ( رابي ماير شيللر ) حيث ذكر ( أنه لو تمَّ إجراء استطلاع لسكان هذه القرية فلن يكون مستغرباً أن تنتهي النتيجة إلى ( 97% ) من السكان سيقولون نعم ... هذا الذي نريد )
بل وإلى الكاتب هذه الموازنة – على مافيها – فقد قال ( ستيفن ويس ) / ( إن القوانين السعودية التي تتعلق بالنساء أكثر تسامحا من الفتاوى الدينية التي تصدر في حي نيويورك المذكور, فالمرأة السعودية على سبيل المثال يسمح لها بالجلوس على المقعد الأمامي بالسيارة إذا كان زوجها من يقود السيارة, وبينما يسمح للرجال وزوجاتهم أن يسيروا معا في المملكة العربية السعودية, إلا أنهم في هذا الحي الأمريكي..يجب عليهم السير في جانبين مختلفين ) ( جريدة الوطن : السبت : 8/1wrk/1426هـ )
فهل تمت المطالبة بحقوق المرأة في هذه القرية من قبل الإعلام الأمريكي ؟ أم تمَّ تعتيمها لأنها مثال صارخ لازدواجية المعايير !
ويواصل الكاتب بقوله ( أنا أعني هنا ما أقول فقيادة المرأة للسيارة حق مشروع لها ) ويقول أيضاً ( الحياة تتطور ومن يحاول وقف تطورها يفشل حتماً )
يبدو أن مقولة \" العاقل من وعظ بغيره \" لم يعد لها وجود على الخارطة الفكرية لدى المطالبين بقيادة المرأة للسيارة ، متجاهلين ما يحدث حولهم في العالم ، فهل تم تهميش جميع التجارب التي سبقتنا ؟ أم أنه انبهار بزخرف القول المنادي بالتحضر والتطور ؟ أم هو تجميد للنسب العقلانية التي أكدتها الدراسات العالمية والتي تناولت الأمر ذاته ، مؤكدة عدم مناسبة القيادة للمرأة ؟! منها - على سبيل المثال لا للحصر- : ( دراسة بريطانية أكدت أن قيادة المرأة للسيارة تعرضها للتلف ، حيث تم تطبيق الدراسة على عينة من النساء السائقات ، وتوصلت الدراسة إلى أن ( 58 % ) يتوفين قبل الأربعين ، و ( 60% ) منهن يصبن بأمراض نفسية ، وقالت الدراسة : أن قيادة المرأة لا تليق ولا تتناسب معها )
بل أن القضية المطروحة ذات بُعد اجتماعي خطير للغاية ، حيث أنه بات من الملاحظ ممارسة المرأة لأدوار الرجل التي كانت مناطة به ككسب العيش ، فنرى الآن تقبلاً اجتماعياً لاتكال الرجل في هذه المهمة على المرأة ، ولا يخفى على الحصيف أن قيادة المرأة للسيارة تعد تكليفاً جديداً يُلقى على كاهل المرأة ويُحط عن الرجل ، فالغرب ( المتطور ) يشعر الآن وبعد تجربة حياتية أن القيادة لا تتناسب مع المرأة ، لكنه لم ينادي يوماً بأنها لا تصلح للأمومة والتربية وعمل المنزل كما يحصل لدينا من دعوات مشابهة ، بل نرى لديهم دعوات عدة لرجوع المرأة لأنوثتها وفطرتها التي عبثت بها الحضارة الغربية ، أفلا نتعظ ؟!
ويتابع الكاتب قائلاً ( لكنا نرى في عصرنا الجرأة على التحريم تتزايد على الأقلام والألسنة ، ومن هذا الباب ما يكتب عن قضية قيادة المرأة للسيارة )
نعم رأينا جرأة ، ولكنها ليست جرأةً على التحريم - فقد قلتُ سابقاً على الكاتب أن يرجع إلى أمهات الكتب للاستزادة في هذا الشأن - ، بل مارأيناه وعجبنا منه كل العجب هو جرأة من ينادي بهذه الدعوات من رجالٍ نصبوا أنفسهم أوصياء على النساء ، ومتحدثين رسميين دون قناة رسمية على لسان المرأة ، وكأنَّ المرأة لدينا لا رأي لها ولا فكر ! ، منادين بحقوقها المهدرة التي سلبها منها المجتمع جاعلين تلك الحقوق متمثلة في القيادة ولاغير ! ، ولم تحمل هذه الأطروحات المؤيدة سوى مبررات سطحية وضوابط ساذجة مُبينَةً الأرضية الهشة التي تقف عليها هذه الدعوات ، وفي الجهة المقابلة تقف صاحبة الشأن دون مطالبة بهذا الحق المزعوم أو حتى تلقي له بالاً ، فهمها أكبر من أن تكون ( سوبر ومن ) تجوب الشوارع دون ضوابط ، أو أن تحصل على قيمة عظيمة جداً عندما تُخرج رخصةً للقيادة ؟ فالمرأة السعودية وصلت إلى مصاف العالمية وقارعت بتميزها نساء العالم أجمع دون أن يعيقها حرمان من حق مزعوم ! ، والحديث في هذا يطول ، والمقام ليس مقام بيانٍ له .
واختتمَ الكاتب مقاله مُطالباً الشيخ الدويش أن ينصرف لما هو أهم بقوله ( فهلاَّ انصرف هو إلى ما هو أهم من قضايا مجتمعه التي كثير منها يحتاج إلى نقاش متعمق وما أكثرها ) فكما طلب هذا الطلب من الشيخ ، سأخاطبه بمنطقه ذاته وأدعوه للانصراف عن القضايا النسائية والالتفات إلى قضايا شبابنا وما أكثرها : كالبطالة في الناحية التنموية ، وفقدان الهوية في لب الوطنية مثلاً ، فنساء هذا البلد اللاتي يمثلنَ الأغلبية خير من يتحدث عن قضاياهن دون الحاجة إلى وصاية من أحد !
وأخيراً أقول : ليسمح لي الكاتب أن خاطبتُه بالمثل ، ولو من باب المساواة في حق التعبير عن وجهة نظري إزاء موضوع يُدرك المسؤولون والعلماء خطورة آثاره المتوقعة في ظل واقع مجتمعنا الحالي على الأقل !
وأسأل المولى العلي القدير أن يجعلنا والأخ الكاتب عبد الله مفاتيحَ للخير مغاليقَ للشر ، وأن يحفظ نساءنا ، ويرزقهن الحياء ، والحشمة ، والعفة ، ويبعدهن عن مضلات الفتن ماظهر منها ومابطن ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
الكاتبة/ قمراء السبيعيبدو أن الكاتب قرأ عن وضع المرأة في العصر الجاهلي