في الأول من ذي الحجة نشرت “الوطن” مقالاً للدكتورة “ليلى الأحدب” تحت عنوان: “رداً على مقالة” : إلى ليلى التي في الوطن ، وفي الرابع منه نشرت “الوطن” مقالاً للدكتور “حمزة المزيني” تحت عنوان : إلى الزميل محمد الذي في الوطن ، وكلا المقالين كانا رداً على مقال سابق لي تحت عنوان : إلى ليلى التي في الوطن .. ولأن في المقالين نقاط التقاء ونقاط اختلاف فقد رأيت أن أبيّن وجهة نظري في أهم هذه النقاط تاركاً الإشارة لبعض الكلام المتهافت في مقال الدكتورة “ليلى” .
مما قالته الدكتورة انني أستنسخ مقالاتها ، وقد استشهدت بفقرات من تلك المقالات التي قالت أنني استنسخت بعض أفكاري منها .
وقالت أيضاً : إن همي الوحيد في مقالاتي هو شتم أمريكا والتنديد بها ، كما قالت: إن عقيدة الولاء والبراء لم تكن موجودة عند المسلمين في مكة لأن المسلمين كانوا ضعفاء، وإنما وجدت هذه العقيدة –حسب قولها- في المدينة المنورة بعد وجود الدولة الإسلامية ووجود محاربين لها .. وما دام الأمر هكذا فإنه لا يصح تفعيل هذه الشعيرة الآن !!
أمّا قول الدكتورة انني أستنسخ من مقالاتها فشيء أستغربه منها؛ فإذا كان الأمر كذلك فلماذا ذلك الرد الذي حشدت له كل طاقتها مادامت آراؤنا مستنسخة بعضها من البعض الآخر ؟ّ إلاّ إذا كانت الدكتورة لا تعرف معنى الإستنساخ!! .
أما الشيء الذي أؤكده لها أنها مخطئة في ذلك القول فبين آرائنا مسافات كبيرة ، ومعظم الشواهد التي حاولت التأكيد على استنساخي لها شاهدة على هذا التباين بيننا وأنصحها إعادة قراءة مقالاتي ومقالاتها مرات ومرات لتعرف حجم التباين بيننا ..
ويظهر لي أن الدكتورة كانت ممتلئة غيظاً لأنني - حسب قولها - لا أكتب إلاً مندداً بأمريكا ، وعدّت ذلك - بحسب السياق - منقصة يجب أن أبتعد عنها ..
الموقف من أمريكا
وأقول لها : إنني راضٍ عن نفسي بهذا النقد والتنديد بأمريكا ولكل من يعمل ضد ديني ووطني ، وأقول لها أيضاً : إنني أكتب منذ سنين طويلة وكانت أمريكا موجودة آنذاك ولم أكن أنتقدها كما أفعل الآن لأنها لم تكن تحتل عدداً من بلادنا ولم تكن تحاصر فلسطين بوحشية لا مثيل لها ، أما وقد فعلتْ فقد استعصى عليّ الصمت كما أراه استعصى على الكثيرين من المسلمين ومن غيرهم.. وإذا كان حب الأمريكان قد ملأ قلب الدكتورة فأنا أهنئها على هذا الحب ولا أحسدها عليه وأتمنى لو أنها اتخذت منّي نفس الموقف ..
وأقول أيضاً : لو أن الدكتورة عرفت أن الأمريكان يهددون بلادها لتغير موقفها منهم !!
الدكتورة في حديثها عن الولاء والبراء جاءت بما لم يجيء به أحد قبلها ولا أظن أن أحداً يقول به بعدها ..
لقد قررتْ - بكل ثقة - أن آيات الولاء والبراء لم تكن موجودة في مكة نظراً لضعف المسلمين وأنها وجدت في المدينة مع وجود الدولة المسلمة ووجود عدد محارب لها . وجعلت هذا القول دليلاً على تخصيص هذه الآيات بغير المحاربين .. ثم اقترحت بعد ذلك أن تفعيل هذه الشعيرة الآن ليس له ما يبره إطلاقاً نظراً لضعف المسلمين اليوم ..
أقول : ليتها لم تسقط هذه السقطة ، وليتها قرأت شيئاً من كتب العقيدة قبل أن تقولها ، فعقيدة الولاء والبراء لا علاقة لها بمكة أو المدينة أو الطائف !! ولا علاقة لها - أيضاً - بقوة الدولة أو ضعفها ، بل هو اعتقاد وجد مع كل الرسل وكل الأمم ، كما وجد في مكة والمدينة وفي حالة ضعف الدولة وقوتها ...
القرآن الكريم تحدث عن أبي الأنبياء إبراهيم -عليه السلام- الذي تبرأ من أبيه ومن قومه بسبب كفرهم ، ولم يكن إبراهيم آنذاك ملكاً قوياً بل كان وحيداً وضعيفاً . يقول تعالى في سورة الزخرف : (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني فإنه سيهدين* وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون) وسورة “الكافرون” التي تسمى سورة البراءة من الشرك نزلت في مكة ، وكذلك في قوله تعالى مخاطباً رسوله : (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين) نزلت في مكة، بل إن أكثر آيات البراءة من الكفار نزلت في مكة ..
أمّا الآيات التي نزلت في المدينة في الموضوع نفسه فلم تكن مختصة بالمحاربين بدليل أن المدينة كان فيها كفّار مسالمون من اليهود والنصارى ، وكان فيها كفار خارج المدينة مسالمون أيضاً ، وكان هناك كفار محاربون . والآيات تناولت هؤلاء جميعاً لأنها علقت الحكم بوصف الكفر مقابل الإسلام .
من ذلك قوله تعالى : (لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان). فهل يمكن تفسير : (إن استحبوا الكفر على الإيمان) : “أي إن قاتلوكم” ؟ وهناك آيات أخرى ولكن يصعب إيرادها في هذا المقال ..
أقول : إذا كانت الدكتورة بعد هذا العمر لا تستطيع أن تدرك أن الحديث عن “الولاء والبراء” لا يعني مطلقاً ضرورة محاربة غير المسلمين بصورة اعتباطية فكيف تطالب بعدم تفعيل هذه الشعيرة الآن ؟ أليس من المهم أن يدرك الشباب اليوم أن “الولاء والبراء” لا يعني مقاتلة المشركين بصورة ارتجالية وبدون موافقة وليّ الأمر ؟
وقفات مع المزيني
أمّا الزميل الدكتور حمزة المزيني فلي على مقاله ملاحظات كثيرة سأكتفي بذكر أبرزها :
أولاً : كرر الدكتور أن مقالي يعد تراجعاً ونكوصاً عما تم إنجازه في السنوات الست الماضية ، كما يمثل نكوصاً عن مسار الاعتدال في الخطاب الديني السعودي ..
لست أدري من أين جاء الزميل بهذا الاستنتاج ؟ وكيف عرف أنني نكصت عن مسار الاعتدال ؟ هل قولي ان في الدنيا مسلمين وكفّارا يمثل في رأيه نكوصاً عن الاعتدال ؟ أليست هذه مصطلحات قرآنية ؟ هل الحديث عن الولاء والبراء جريمة تخرج المتحدث عنها عن الاعتدال ؟ ألم يرد هذا المصطلح في القرآن والسنة مراراً وتكراراً ؟
ثانياً : أذكِّر الزميل أن أصحاب الديانات المختلفة يصف بعضهم البعض الآخر بأنه “كافر”، أعرف أن هذا المصطلح ليس موجوداً بنفسه في اللغات الأخرى لاختلاف لغة العرب عن غيرها من اللغات لكن معناه هو الموجود. وانظر إن شئت إلى قول الغربيين عمن يؤمن بديانتهم “Infidels” وهو مصطلح شاع في عصر الحروب الصليبية وكان يعني “الكفار” والمصطلح الشائع حالياً وهو : “ Unbelievers” أي : غير المؤمنين ، وهو يعني “الكفار” .. فهل وجود هذا المصطلح عندهم يعني أنهم يشيعون الكراهية للآخرين ؟؟ شخصياً لا أعتقد ذلك وإنما هو شيء طبيعي فهم يصفوننا بـ “الكفار” باعتبارنا لا نؤمن بديانتهم ، ونحن نطلق عليهم الوصف نفسه ولنفس السبب ، وهذا - لمن يفهم- لا يعني تسويق الكراهية للآخرين ..
العودة والقرني
ثالثاً : استشهد الزميل ببعض الدراسات ليثبت صحة قوله عن “الولاء والبراء” ومنع كراهية دين الكفار . والراجح أنه لم يقرأ هذه الدراسات جيداً ولعله أكتفى بقراءة عناوينها ، فكتاب الدكتور عبدالله القرني “مناط الكفر بموالاة الكفار” يخالف تماماً ما أشار إليه ، فالدكتور القرني لا يجادل في بغض الكافر وبغض دينه بل قرر أن هذه المسألة أصل من أصول الدين ، وإنما بحث في كتابه حكم “من يتولى الكفار ويناصره على أهل الإسلام” . كما أن مقالة الدكتور سلمان العودة: “بين الولاء الإسلامي والفطري” أكدت على كره دين الكفار بكل وضوح ، وممّا قاله : “إن الكره هو كره الكافر وعقيدته وكره ظلمه وعدوانه والبراءة من قادة الحروب والدماء والعدوان على الناس والأبرياء من المسلمين” .
أمّا مقالة الشيخ العودة “التعايش الحضاري” التي استشهد بها الدكتور المزيني فليس فيها أية إشارة لمسألة بغض دين الكافر .
كما استشهد الدكتور بالورقة المقدمة عن المناهج في لقاء الحوار الوطني الثاني وهو يعلم أنها لم تكن محل اتفاق بل دار حولها جدل كثير أثناء المؤتمر وبعده ولا زالت حتى الآن محل أخذ ورد ..
رابعاً : اتفق مع الدكتور المزيني على أهمية الحوار مع النصارى وسواهم ، وهذا هو النهج الذي سار عليه المسلمون قديماً وحديثاً مع حرصهم على الثبات على أصول دينهم..
خامساً : أكد الزميل أن إبطان كره عقيدة غير المسلم مع إظهار معاملته بصورة حسنة يُعَدُّ نفاقاً وازدواجاً في الشخصية .. وأنا أقول للزميل هل كان إبراهيم عليه السلام منافقاً وآيات القرآن تؤكد بشكل قاطع أنه كان يحب والده كثيراً ووالده لم يكن مؤمناً ومع هذا فقد أعلن براءته من عقيدته ؟ وهل كان سعد بن أبي وقاص منافقاً وقد أكدت كتب السيرة أنه كان متعلقاً ومحباً لوالدته بصورة كبيرة -وهي لم تؤمن- ومع هذا فقد تبرأ من عقيدتها ؟
الشواهد كثيرة جداً ، ولو بسّط الدكتور هذه المسألة لعرف أنها ليست نفاقاً وليس هناك تضارب مطلقاً بين كره عقيدة غير المسلم والتعامل معه بصورة جيدة .
الاستشهاد بتشومسكي
سادساً : استشهد الدكتور بنعوم تشومسكي باعتباره ناصر القضايا الإسلامية وتساءل مستنكراً : هل يمكن أن نقول له ولسواه ممن يشبهه : أننا نكره عقيدتكم ونحب مواقفكم هذه ؟
وقبل أن أجيب الدكتور أود منه أن يجيبني بوضوح شديد : هل يحب عقيدة تشومسكي أم يبغضها ؟
وهل يرى أن هناك موقفاً ثالثاً بينهما لا هو حب ولا بغض ؟
يا صديقي ليس هناك ضرورة أن نقول له ولا لسواه ولا لمن لا يناصر قضايانا أننا نكره عقائدكم إذا لم يكن هناك مبرر لهذا القول ... وأجزم أن تشومسكي لو سألته عن عقيدتك لقال : إنه لا يحبها وهذا من حقه ولو لم يقلها لكان منافقاً ..
تشومسكي وسواه ممن يناصر قضايانا أو حتى من كان محايداً يجب أن نشكره ونعبر له عن امتناننا لما يفعل وإذا كنّا قادرين على مكافأته فلنفعل والرسول يقول: “من صنع إليكم معروفاً فكافئوه” ولكن كل هذا شيء ومحبة عقيدته شيء آخر .
الغلو والمناهج
سابعاً : أعرف يا صديقي أنك تكره الغلو وتكره ما يقوم به بعض المدرسين من تفسير خاطئ لبعض القضايا الإسلامية ، وأنا أتفق معك على هذا ولم “أنكص” عنه ، وقد انتقدت مناهج التعليم العام والجامعي –كل المناهج- وليس بعضها ، فكلها تحتاج إلى إعادة تقويم بما يخدم مصالحنا ولكن وجود بعض التجاوزات لا يعني المطالبة بإلغاء مصطلحات إسلامية جاءت في القرآن والحديث وكل كتب الفقه ، حتى وإن كانت هذه المصطلحات مكروهة عند بعض الغربيين ...
المطالبة بفهم بعض المصطلحات حسب مقصود الشريعة ومن أناس متخصصين هو المطلب الذي يجب أن نتفق عليه ، أما الإلغاء فهو الذي يُوَلِّد التطرف ويعطي بعض الجهلة مادة يبنون عليها كراهيتهم لبعض المسلمين ولسواهم .
د. محمد علي الهرفي
أكاديمي وكاتب سعودي