د.سعد بن عبد الله البريك
خلال بحثي في موضوع '' الدولة المدنية'' تتبعت كأكاديمي وواعظ- الخطوط البحثية العريضة التي تساعد على فهم الأبعاد المعرفية والسياسية لها فإذا بي أجدها مصطلحا وليست مجرد كلمة مركبة . والفرق بين المصطلح والكلمة أن المصطلح له دلالات علمية ثابتة يتفاوت ثباتها بحسب ثبات قوانين العلم الذي ينتمي إليه المصطلح نفسه. فثبات اصطلاحات الفيزياء تختلف عن تلك التي في النحو مثلا أوعلم الاجتماع السياسي الذي يعد المجال لاصطلاح (الدولة المدنية).
وبرغم أنني بينت وبشكل واضح كالشمس في كبد السماء أن مفهوم مصطلح ''الدولة المدنية '' مطاطي ينكمش ويتمدد وأن هناك من يستعمله بحسن نية أي (باعتباره كلمة فيحتاج إلى نفي ما تعنيه باعتبارها مصطلحا) وهناك من يستعمله بسوء نية أي بأصل اصطلاحه الغربي) إلا أن هناك من يخلط بينهما وهذا يولد في شعوري غمرة حزينة من الإحساس بالأسى على واقعنا الغارق في الخلط والتخليط في ظل غياب تحرير المفاهيم والمصطلحات وسطحية الثقافة.
ذكرت ذلك لأنني على يقين أن بعضا من المثقفين (مع حسن نيتهم) قد يوظفون عبارة (الدولة المدنية) وهي (مصطلح وليس كلمة مركبة) توظيفا حماسيا في نشوة الغيرة والحرقة على الحقوق ..وقد يكون سبب توظيفهم لها شكل من أشكال الانهزام النفسي من غير شعور أمام المصطلحات المستوردة...تماما كما يقع للإنسان العادي وهو يوظف اصطلاحات غربية في عموم كلامه بنية حسنة من باب انبهار (لاشعوري بالغرب) يعكس انهزاما نفسيا أمام حضارته ..وما أكثره في واقعنا !!
مصطلح الدولة المدنية نشأ من جدلية ''المجتمع المدني '' في فلسفلة أرسطو وهيغل وماركس وسارتر و الفلاسفة الغربيين والمنظرين من الغرب والشرق منذ سنة 1840م أي القرن الثامن عشر ونحن اليوم في القرن الحادي والعشرين...و تناول (الدولة المدنية كمصطلح وليس ككلمة) جل المفكرين والسياسيين والكتاب والباحثين في علم الاجتماع والسياسة والإصلاح (العلمانيين وغير العلمانيين) على مدى قرنين ونيف إلى يومنا هذا... وحين يأتي أحدهم ليشرحه متجاوزا القيمة الاصطلاحية الحقيقية للكلمة كما هي في نسقها الفلسفي والتاريخي والواقع السياسي المعاش على الأرض هنا يغمر القلب حزن صامت على واقع مر وأزمة ثقافية حادة تضيع معها أكثر الحقائق وضوحا وجلاء لها علاقة بجوهر الإصلاح وأعز ما تملكه الأمة وهو دينها.
من ينكر بأن دعاة الدولة المدنية من العلمانيين يقولون بأن: ''الدولة المدنية هي نقيض الدولة الدينية '' إنما ينكر حقيقة كالشمس في وضوحها
مناظرة شهيرة في مصر بين دعاة الدولة المدنية عنوانها مصر بين الدولة الدينية والدولة المدنية تناظر فيها جمع من علماء الشريعة مع فئة من الليبراليين على رأسهم د . فرج فودة. هذه المناظرة لم تقع بعد اعتراض بعض المثقفين على رفضنا لما يسمى ''بالدولة المدنية'' حتى يكون لهم عذر في الجهل بها بل وقعت منذ أكثر من خمس عشرة سنة ولم تكن تحت الأرض في السر بل حضرها عشرون ألفاً من الوطن العربي ولم تبق طي الكتمان بل طبعت عدة مرات وهي تباع في الأسواق وموجودة في كل المكتبات وفي متناول كل يد وفي حافظة كل مثقف متتبع , حتى اعتبرها المثقفون والمراقبون أعظم مناظرات العصر إن لم تكن من أعظمها..!!
القائلون بأن الدولة المدنية نقيض للدولة الدينية ..أي أنها لا يجوز أن تحكم فيها الشريعة ولا أن تكون البيعة الشرعية أساسا للحكم أكثر من أحصيهم من المنظرين والمفكرين والسياسيين وزعماء حركات التغيير ذات الاتجاه العلماني والليبرالي واليساري والشيوعي الماركسي...هذه حقيقة لا يتجادل فيها مثقفان اثنان
وأترك القارئ الكريم : مع بعض التصريحات للقائلين بأن الدولة المدنية نقيض الدولة الدينية:
يقول الدكتور/ الحبيب الجنحاني وهو مفكر تونسي ليبرالي معروف - في كتابه المجتمع المدني وأبعاده الفكرية: لا غرابة أن يكون موقف الإسلام السياسي موقفاً مناقضاً لرؤية المجتمع المدني ، فالرؤيتان متباينتان. المجتمع المدني يحل مشاكله حسب قوانين وضعية أما المجتمع الإسلامي السياسي ، فإنها تستمد شرعيتها من السماء. و يقول د. عمرو إسماعيل وهو كاتب علماني مشهور ومن دعاة الدولة المدنية: هم يقولون الإسلام هو الحل وأنا أقول: إن الدولة المدنية هي التي تستمد شرعيتها من الشعب -وليس الله كما يدعون- هي الحل
الديمقراطية تعني الدولة المدنية وآلياتها من فصل الدين عن الدولة وحقوق المواطنة للجميع . ويقول الدكتور شاكر النابلسي وهو علماني معروف ومن أبرز دعاة الدولة المدنية: أما الدولة المدنية فالصفة الأساسية لها هو طابعها العقلي. ولا مكان لرجال المؤسسة الدينية في هذه الدولة حيث لا يفيدون شيئاً. وشرعية هذه الدولة تكمن في القانون. ويقول الدكتور فؤاد زكريا وهو علماني جلد في دراسته : والدولة المدنية لا غرائز لها. وتستطيع هذه الدولة أن تتعايش مع الدين فيما إذا الدين لم يُقحم نفسه في السياسة. فالدين في الغرب العَلماني ما زال هناك، وبيوت العبادة ما زالت قائمة.
- وبيــــان ''لجنة دعم الديمقراطية''(10-08-2005):
صاغ المحور الرابع من محاور الدستور العراقي الحالي أكثر من ثلاثين باحثا متخصصا في العلوم السياسية وناقشه خمسون باحثا وغيرها جاء فيه:
- الدولة المدنية نقيض الدولة الدينية . كما جاء في وبيــــان ''لجنة دعم الديمقراطية'' بتاريخ (10-08-2005).
وأذكر من يرمون المصطلحات الغربية في بلادنا لتكريس التغريب بأن الدنيا لا تزال بخير وفي الزوايا خبايا وإن بني عمك فيهم رماح .يقول الله جل وعلا:'' فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ (1