التعليم بالعمل:
التعليم بالعمل أبلغ من التعليم بالقول ، وأسرع في الوصول إلى الامتثال ، والتصور من غيره ، ولذلك كانت تربية النبي صلى الله عليه وسلم – في كثير من أحواله – لأصحابه عملية كالصلاة مثلا ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) ، والحج ( لتأخذوا عني مناسككم ).
وكان ابن الجوزي – رحمه الله تعالى – يولي هذا الجانب في صيد الخاطر اهتماما كبيرا ، ومن أحسن ما ذكره في ذلك ما يلي :
قال – رحمه الله - : ( لقيتُ مشايخَ ، أحوالُهم مختلفةٌ ، يتفاوتون في مقادِيرِهم في العلم .
وكان أنفعُهُم لي في صحبتِهِ ، العاملَ منهم بعلمه ، وإن كان غيرُهُ أعلمَ منه .
ولقيتُ جماعةً من علماء الحديث يحفظون، ويعرفون ،ولكنهم كانوا يتسامحون بغيبةٍ يخرجونها مخرجَ جرحٍ وتعديلٍ ، ويأخذون على قراءة الحديث أُجرةً ، ويسرعونَ بالجواب لئلا ينكسرَ الجاهُ ، وإن وقع خطأٌ .
ولقيتُ عبدَ الوهاب الأنماطي :
فكان على قانونِ السلفِ .
لم يُسمعْ في مجلسه غيبةٌ ، ولا كان يطلب أجراً على سماع الحديث .
وكُنتُ إذا قرأتُ عليه أحاديث الرقائق بكى ، واتصل بكاؤُه .
فكان –وأنا صغيرُ السنِّ حينئذٍ–يعملُ بكاؤُه في قلبي ، ويبني قواعد الأدب في نفسي ، وكان على سمت المشايخ الذين سمعنا أوصافهم في النقل .
ولقيتُ الشيخَ أبا منصور الجواليقي :
فكان كثيرَ الصمتِ .
شديدَ التحري فيما يقول ، متقناً محققاً .
وربما سُئِلَ المسألةَ الظاهرةَ التي يبادر بجوابها بعضُ غلمانه ، فيتوقف فيها حتى يتيقن ، وكان كثيرَ الصوم والصمت .
فانتفعت برؤيةِ هذينِ الرجلينِ أكثرَ من انتفاعي بغيرهما .
ففهمت من هذه الحالة : أن الدليل بالفعل أرشد من الدليل بالقول .
ورأيتُ مشايخَ كانت لهم خلواتٌ في انبساطٍ ومُزاحٍ ، فراحوا عن القلوب ، وبدد تفريطُهم ما جمعوا من العلم ، فقلَّ الانتفاعُ بهم في حياتِهم ، ونُسُوا بعد مماتهم ، فلا يكاد أحدٌ أن يلتفت إلى مصنفاتهم .
فالله الله في العمل بالعلم فإنه الأصل الأكبر .
والمسكينُ كلُّ المسكينِ مَنْ ضاعَ عمُرُه في علمٍ لم يعمل به ، ففاتته لذاتُ الدنيا ، وخيراتُ الآخرة ، فَقَدِم مُفلِساً مع قوةِ الحجةِ عليه ).
منقول