على الرغم من كثرة الكتابات ـ هذه الأيام ـ التي تتحدث عن الليبرالية العربية الجديدة، والأفكار التي تنتسب إلى هذه "اللافتة" إلاّ أنه من الصعب للغاية أن تضع يدك على رؤية حقيقية جادة ومستنيرة وإيجابية وبناءة تمخّضت عن هذه الكتابات، وإنما هي ـ في الحالة العربية وعلى سبيل التحديد ـ محاولات لإجهاض الفكر الإسلامي أو تشويه صورته أو الانتقاص من قدره، تنتهي بتحقير "الإنسان" العربي المسلم نفسه وتاريخه وهويته وحضارته وكل ما ينتمي إليه، هي حالة "امتعاض" من الإحياء الإسلامي، وهو "امتعاض"؛ لأنه لا يقوم على أي أساس من المنطق، وإنما مجموعة من الاتهامات والتشنجات، من مثل: تيار غير عقلاني، تيار ضد الحداثة، تيار ظلامي، تيار معادٍ للجمال وللفن، ونحو ذلك، وهي كلها مصادرات على رؤية الآخر للقضايا والأفكار، وضيق من وجود "الآخر" ابتداءً، ونزوع إلى احتكار المعرفة، واحتكار العقل والعقلانية، ولنتأمل ـ على سبيل المثال ـ سطوراً سُطّرت قبل أيام في واحدة من أعرق الصحف العربية، وكاتبها أحد مراجع الليبراليين العرب اليوم؛ حيث يصف أبناء الفكر الإسلامي بأنهم: "لا يؤمنون بالعقل في الوقت الذي يقدسون فيه النقل! ولذلك تراهم ينقلون عن القدماء بغير تفكير، ويعتمدون - للأسف الشديد - على أحاديث نبوية موضوعة"، والحقيقة أني كنت في السابق ألتمس العذر لبعض الليبراليين العرب في أنهم لا يملكون جسوراً من التواصل الجيد مع الآخر، وهذا ما يسبب القطيعة وسوء الظن وسوء الإدراك لرؤى الإسلاميين وأفكارهم ومناهج التفكير لديهم، ولكني هنا مع الأسف لا أستطيع افتراض ذلك؛ لأن كاتب هذه الأسطر ـ تحديدًا وهو نموذج ـ، هو من الكتاب والمفكرين الذين يملكون اليوم جسوراً من التواصل مع أكثر من شخصية فكرية إسلامية من مختلف الاتجاهات، صحيح أنها جسور أتت متأخرة، جاءت بعد أن اكتمل تكوينه الفكري وترسّخ لديه خلال عمر يقترب من السبعين، إلاّ أنها في النهاية جسور موجودة، وأنا أقول ذلك عن تجربة شخصية، فقد التقيت بكاتب تلك الأسطر وغيره مرات عديدة، وتحاورنا وتجادلنا، كما كان يسعدني باتصاله الذي يسأل فيه عن أحوالنا وأمورنا أو بعض ما نتعاون به أو مقال لفت نظره، كما كانت هناك حوارات خصبة في موائد مستديرة، سمع مني ومن غيري من الإسلاميين وسمعنا منه، وأحسب أن في تلك الحوارات المباشرة كان هناك ملامح تقارب حقيقي في الرؤى والأفكار، مع بعض الاختلاف، فإذا ما كتب الكاتب بعد ذلك فوجئنا بمثل هذه الاتهامات الغريبة!!
فهل ترى يعتقد كاتبها فعلاً بأن مثلي ـ وقد حاورني حواراً عقلانياً طويلاً ـ هل يعتقد أني "لا أؤمن بالعقل وأقدس النقل" حسب اتهامه المرسل السابق؟
وهل كل حواراتنا وجدالنا ونقاشنا هو إهدار للعقل وعدم إيمان به؟
وهل علم في يوم من الأيام أننا نقدس النقل تقديساً، وأي نقل يقصد؟
هل يعني الوحي الإلهي أم تراث المجتهدين؟
وأين هي الأحاديث الموضوعة التي وجدنا نعتمد عليها في بنائنا الفكري؟
والحقيقة أن قصة العقل والعقلانية أصبحت اليوم مدخلاً للاستبداد الفكري والضيق بالآخر؛ لأنه من السهل أن تتهم كل من خالفك الرأي بأنه غير عقلاني، وكأن كل من لبس لبوس الليبرالية أصبح "الكاهن" المرجع للعقل والعقلانية، ولا يكون المفكر أو الكاتب عقلانياً إلاّ إذا حصل على "صك" بذلك منه، وهذا كله في النهاية سلوك غير عقلاني أبدًا!
كما أن حكاية تقديس النقل على حساب العقل، التي يروجها الليبراليون العرب ـ تحتاج إلى مراجعة "عقلانية"؛ لأن التعامل مع النقل هو ـ بالمقاييس العلمية ـ عمل عقلاني صميم، سواء كان النقل هو الوحي الإلهي، وخاصة السنة، أو كان التراث الفقهي البشري؛ فدراسة السنة النبوية من جانب الإسناد وتصحيحه على سبيل المثال تقوم على موازين عقلية دقيقة للغاية.. تقوم على رصد التواريخ ومقارنتها وتقويم الرجال "ومنطق" التسلسل في الرواية، وغير ذلك، بل إن فرع "علل الحديث" هو من أروع وأدق التأملات "العقلية" لعلماء السنة، أما على صعيد متن الحديث "وعقلانية" النظر فيه، فهو بحر واسع من الموازين والمقارنات والمقاربات والتوفيقات والترجيحات بين الخصوص والعموم والإطلاق والتقييد والزيادات والتعارضات وغيرها، مما يعرفها دارسو الحديث ودارسو أصول الفقه، وكلها جهود يمثل العقل فيها محوراً وقطباً ومرجعاً، بحيث يكون من الاستخفاف الشديد والسطحية وصفها بأنها جهود تقدس النقل وتحتقر العقل.