مدخل:
كثيرة هي الدعاوى وكثير أصحابها.. فالباحث في مجالات العلوم على اختلاف أصنافها يجد فيها من الدعاوى والإثباتات الشيء الكثير.. دعاوى متنوعة، منها ما يتعلق بجزئيات العلم نفسه، ومنها ما يتعلق بأصل نشأته، ومنها ما يتعلق بالرد على المخالفين في قضية ما من قضاياه، وكلما علا شأن العلم وكبرت قيمته وازداد وزنه وبرزت أهميته كلما تهافتت إليه نفوس الناس ادعاء لنسبته إليهم وصدوره عنهم وأن لهم وحدهم قدم السبق فيه وغيرهم من الناس ما كانوا ليصلوا لولاهم وما هم إلا تبع لهم في الفكرة والتأصيل والتفريع .
ومن هذه العلوم وتلك المجالات التي دار حولها الخلاف – أعني: خلاف أصل النشوء والتبعية – علم أصول الفقه، فإنك إذا ما بحثت في الخلاف حول أصل نشأته تجده محصورا بين فرقتين لا ثالث لهما (السنة والشيعة) . وكلا منهما يدعي أن له السبق في هذا العلم وأن نشوءه ومنبعه كان من جهته.
والمثير في الأمر أنك تجد الشيعة هم من يحاولون جاهدين بشتى الطرق ومختلف الأساليب إثبات الدعوى بأن لهم السبق في إنشاء هذا العلم الجليل القدر والعظيم الشأن . ولعل من المناسب أن نحاول البحث عن الأسباب التي دفعت الشيعة أو أي جهة تريد نسبة ذلك العلم لها قبل بيان حقيقة الدعاوى وإبراز القضايا المتعلقة بها .
أما عن الأسباب فإنك بنظرة فاحصة وتركيز ثاقب يمكن أن تصل إليها ويمكن إيضاحها على شكل نقاط وهي كما يلي :
1- إن التفاخر بين الناس على كافة المستويات إنما يكون بمقدار المنجز والمقدم والمعروض منهم، سواء كان في مجالات العلوم أو الأخلاق أو الشرف أو النسب أو المادة، فعلى مقدار ما تتوافر الإمكانيات يكون التمايز والتفاخر والتصدير .
وفي مجال العلم والدين إنما يكون التمايز والبروز والتفاخر والصدارة مقيساً ومقدراً على وفق الخدمات التي قدمتها لهذا الدين والسعي من أجله ومحاولة إثرائه بما يحتاجه أو يُنمِّيه من آلات عدة ومرسخات .
ومن عجيب ما يقال في هذا المجال: إن من كانت بضاعته مزجاة وخدماته لا أثر لها على الواقع والانتفاع منه إن لم يكن معدوماً فهو إلى السلب والنقص أقرب هو الذي يحاول أن ينسب له أي شئ كمحاولة لاغير عسى ولعل أن تؤتي أكلها ويثمر نتاجها فتنسب إليه ولو على سبيل الظن لتكون له رصيداً ينتفع به إذا ماطولب بإنجاز .
ومن هذا الباب ربما تجد الشيعة يحاولون لتحصيل هذه النسبة وأعني نسبة العلم لهم عسى ولعل أن يرفع به شأنهم وتعلو به مكانتهم ويزيد به رصيدهم.
2- تحقيق التبعية بمعنى أن اللاحق تابع للسابق، فالذي يتقدم ويسبق في التأصيل والتصنيف كل من يأتي بعده ممن يصنف أو يفرِّع أو يحقق، سواء عليه إذا كتب أو نظم أطال أو اختصر جمع كل ما يحويه أو انتقى مسائل يبحث فيها إنما هو تابع له وعالة عليه .
هذا الأمر أهميته تبرز في جانب البناء والتطبيق العملي إذ أن التابع مهما بلغ من درجة العلم الذي يبحث فيه لن يكون له ذلك الشأن ولا تلك المنزلة الحاصلتان لمن أبدع وأنشأ وكان الَسَّباق في البحث والتصنيف والتبويب والجمع لشتات المسائل .
3- الاستقلالية العلمية والانفراد الفكري، فالمؤصل أو السابق يتمتع باستقلالية من ناحية المادة المطروحة في العلم المبحوث فيه .. هذه الاستقلالية والتفرد تجعله في حصانة من الاختراق وأمان من الانزلاق في مهاوي الغير .
فلا يجد المخالف سبيلا إلى بث ما يريد بثه أو دس جزء من دسائسه لأن استقلالية المقابل توفر الحماية له من جهة استغنائه بما عنده عن الذي عند الغير . أما التابع والمغترف فلا يأمن من الاختراق ولا يسلم من التأثر إذ أن تابعيته واقتباسه وخصوصاً إذا كان ذلك في الأصول التي يفرع منها ويبنى عليها تؤدي به ضرورة إلى الالتزام بالطريقة وسلوك الاعتبارات الموضوعة في هذا العلم للوصول إلى المراد وتحقيق المطلوب .
وقد يؤدي ذلك في أكثر الأحيان إلى التحول من الطريقة المعتادة والسلوك التقليدي إلى طريق آخر وسلوك جديد تفرضه التبعية ويحتمه الانسياق للغير والأخذ منه .
4- الدوافع الشخصانية والأهواء والعلاقة مع المقابل أمور تؤثر بشدة في الادعاءات بخصوص النسبة إلى الجهة بالأسبقية .
ولا أبالغ إذ أقول: إن لها جل الأثر في التخاصم والنزاع حول هذا الأمر وغيره من الأمور. فهذه المؤثرات الذاتية تشعل المنافسة بين الجهات وتدفع بعضها إلى اتباع أي أسلوب ممكن حتى ولو كان غير مقبول لا عقلا ولا شرعا في سبيل إثبات أفضلية يحاول عن طريقها التقدم على الغير والبروز عليه وادعاء أن له الفضل في جانب من الجوانب . ويمكن أن يفسر هذا الجانب بأنه شعور بالنقص وإحساس بالتدني في المجالات المعروضة والمطروحة على واقع ارتكز في النفوس فأفرغ نتائج مفادها محاولة الانتقام من المقابل المعتلي بأي صورة حتى ولو كانت هذه الصورة تتمثل بسلب نتائجه وتبوء مكانه الذي وصل إليه بجهده وسعيه الحثيث وعمله المستمر وتعبه المضني نعوذ بالله من الخذلان .
5- تحقيق المكاسب سواء منها الآنية أو المستقبلية المتيقنة أو المظنونة .. مكاسب يدعو إليها الانتماء إلى الطائفة لا غير؛ لأنه وببساطة إذا كان الإنسان المسلم يسعى في تحصيله أي أمر من الأمور تحقيق المصلحة العليا للإسلام فإنه لن ينظر إلى ذات أو جهة، فأعماله كلها تنصب في مصلحة عليا ألا وهي مصلحة الإسلام وإعلاء كلمته . ولكن متى كان الانتماء إلى جهة والميل إلى طائفة فإنك سوف ترى أهل هذا الميل والانتماء يسعون لتحقيق مكسب يقوون به طائفتهم والجهة التي ينتمون إليها ويسعون من خلال محاولاتهم إلى إبراز طائفتهم كجهة ذات شأن رفيع وأنها هي التي لها الصدارة وهي الواجهة الممثلة والساعية للتحصيل والخدمة حتى ولو كان ذلك على سبيل الادعاء لأن الميل يعمي ويصم، وتقديم مصلحة الطائفة يؤدي ولاشك إلى اتباع أي سبيل لتحقيق المكاسب والوصول إلى الصدارة.
هذه جملة من الأسباب التي من ورائها تسعى الجهات إلى محاولة الانتساب إلى الأولية في إنشاء العلم، وهي كما تراها أسباب تنافسية مصلحية القصد منها البروز والظهور ومحاولة تحصيل مصالح معينة عن طريق ادعاء النسبة.
والغرض من عرض هذه الأسباب إنما هو معرفة المستفيد والذي يمكن أن يجني من خلال الادعاء الثمرة فإنك إذا وجدت هذه الأسباب أو أكثرها متحققة عند جهة فإنك ستشعر ولو ظنا أن هذه الجهة تحاول الادعاء بنسبة العلم إليها من أجل تحقيق المطلوب من هذا الادعاء. والحكم في هذا للبيب .
نعود الآن بعد هذا العرض إلى الخوض في حيثيات الموضوع محاولين تقريب الأنظار وتوجيهها نحو النقطة المطلوب الوصول إلى نتيجة حولها.
البقية في المرفقاتفي ملف ورد
- المرفقات
- Nouveau Document Microsoft Office Word.docx
- الشيعة عيال على أهل السنة في علم أصول الفقه
- لا تتوفر على صلاحيات كافية لتحميل هذه المرفقات.
- (86 Ko) عدد مرات التنزيل 1