قصص الخليل
                                                                                   
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إلـٰه إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدا عبد الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسليما كثيرا.
أيها الناس اتقوا الله –تعالى- حق التقوى، واستمسكوا بالإسلام فإنه العروة الوثقى، وفرّوا من حدود الله وما يغضب الله فإن أجسادكم وعظامكم على النار لا تقوى.
واعلموا أن خير الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة في الدين ضلالة.
أيها الإخوة في الله، أيها المسلمون، إن أحسن القصص وأعظهما أثرا في القلوب وأعظهما حياة للقلوب هي قصص أنبياء الله ورسله، ثم بعد ذلك قصص أصحاب رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فهؤلاء أناس الله هو الذي اختارهم، وخيرته من حكمته، واختارهم لما علمه في قلوبهم من خير، وقصصهم خير معين لمن كان على سبيلهم وإن لم يبلغ أعمالهم ولن يبلغها، خير ما يثبّت العبد ويربط على قلبه وأن يتدبّر ما في قصصهم من العبر، وخاصة إذا نطقوا وتكلموا، فإن الألسنة مغاريف القلوب، وإن قلوبهم قام بها من المعاني التي يحبّها الله جل جلاله ما لا يقدر قدره إلا الله، فإذا تكلّم الأنبياء فأنصتوا وتدبروا وابحثوا في معاني كلامهم، فإنّ هـٰذه هي النافذة إلى ما في قلوبهم من الخير.
وإن إبراهيم عليه السلام قد كان في مكان عليّ جدا عند الله جل جلاله، وعند أنبياء الله، وعند الصالحين من عباد الله إلى يوم القيامة، فهو إمام الملة، وهو شيخ التوحيد، وهو خليل الرحمـٰن، اصطفاه الله واتخذه خليلا.
إبراهيم قصّ الله علينا في كتابه قصصا كثيرة عنه وعن موسى عليه السلام، ثم موسى خير الناس بعد محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وإبراهيم قصّ الله علينا قصصه وهو فتى، وهو كهلا، وهو شيخا، ورأينا في أثناء ذلك العجب العجاب، لما عُرج بنبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى السماء ثم رجع إلى الأرض أخذ يصف الأنبياء، فلما بلغ إبراهيم قال: ((أما إبراهيم فلم أجد أحدا أشبه خُلقا وخَلقا به من صاحبكم)) يعني نفسه –عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ- فهو أشبه الناس خلقا وخلقا بإبراهيم عليه السلام، أما أن المقام لا يكفي إلا لتلاوة آيات من قصصه التي قصها الله علينا، فتدبروا إخوتي في الهن فإنه كان وحيدا، ولكن الله بين عينيه، فاستغنى به عن الناس عن الأرض ومن عليها، وكان وحيدا يفر بدينه من بلد إلى بلد، لم يؤمن معه أتباع كثير عليه السلام؛ ولكنه لم يستوحش من قلة الرّفيق ولا من طول الطريق، ولا من النار، ولا من التّعذيب، ومن الضغوط، ولا من ترك الولد والوالد والهجرة والوطن، لم يستوحش من ذلك، قلبه للرحمـٰن وبيته للضِّيفان، واجتمع على حبه أهل الأديان، كلّ يدعي أنه من إبراهيم؛ لكن الله قال: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)﴾[آل عمران:67]، وقال الله: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)﴾ نحن والله أولى الناس بإبراهيم عليه السلام، قال الله عنه: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ (51)﴾[الأنبياء:51]، ﴿اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾[الأنعام:124]، وحيث يجعل وراثة النبوة في أي القلوب، ومقاييس الله وحكمة الله واختار الله لا يدعها للبشر، لو تركها للبشر لقالوا: ﴿لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)﴾[الزخرف:31]، الدّنيا في قلوبهم يريدون أن يضعوا النبوة عند أهل الدنيا أيضًا؛ لكن الله بحكمته يضعها بالقلب الذي يختاره -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الذي يحمل هـٰذه النّبوة، قال الله عن موسى لما خاطبه: ﴿وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13)﴾[طه:13]، وقال ههنا: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ (51)﴾[الأنبياء:51] وظهر لنا من حلم إبراهيم، وحزم إبراهيم، وصدق إبراهيم، وإخلاص إبراهيم، أمرا يعجز الإنسان عن وصفه، فتبارك الله أحكم الحاكمين، ﴿إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ (53)﴾[الأنبياء:52-53] هـٰذه هي الحجة ﴿قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ (54) ﴾[الأنبياء:54]، صرّح لهم بالعداوة، صرّح لهم بالباطل، إبراهيم ليس ممن يدهن حتى يدهنون، فتى أمام قبيلة كاملة وبلد كامل: ﴿قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ﴾ حتى آباؤكم، ﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (55) قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَٰوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)﴾[الأنبياء:55-57]، وصف نفسه بصورة أخرى فقال: ﴿فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89)﴾[الصافات:89]، لما رآهم يعبدون غير الله لم يحتمل ﴿وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلاَّ كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ﴾ أي يعيبهم ﴿يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا﴾[الأنبياء:57-62]، وهـٰذه إحدى كذباته الثلاث في ذات الله وهي معاريض ﴿قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ (65)﴾[الأنبياء:63-65]، انفتح الباب لإبراهيم ﴿قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ (66)﴾ بل لا ينفع نفسه ولم يدفع الضر عن نفسه ﴿أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (68)﴾[الأنبياء:67-68]، ولكن الله يدافع عن الذين آمنوا، هـٰذه صفته جل جلاله،  ﴿قُلْنَا يَا نَارُ﴾ يا محرقة ﴿كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)﴾[الأنبياء:69-72]، وقال الله عنه: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ﴾[مريم:41-43]، كل من عبد من دون الله فهو عبد الشيطان ﴿لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي﴾[مريم:44-47]، قال الله عن هـٰذه الكلمة: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)﴾[التوبة:114]، ﴿قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)﴾[مريم:47] يصف ما رأى من ربه جل جلاله ﴿إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا﴾؛ إن حفاوة الله هي لكل من أقبل على الله وصدق مع الله، من أتى الله يمشي أتاه الله هرولة، ومن تقرّب إليه شبرا تقرب إليه ذراعا، وكلّما كان الإقبال والصدق أكثر كانت حفاوة الله بعبده أكثر ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ﴾ لا أمكث معكم على الباطل ﴿وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾[مريم:48-49]، عوّضه الله عن الأهل والوالد والعشيرة ﴿وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)﴾[مريم:49-50]، وقال الله عنه: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ (76)﴾[الشعراء:69-76]، تأملوا في كلام الأنبياء فإنه يدل على ما في القلب ﴿أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾[الشعراء:78-89]، والذي نفسي بيده إن قلب إبراهيم هو أكثر القلوب سلامة، قال الله عنه: ﴿وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإٍبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84)﴾[الصافات:83-84]، وقال الله في هـٰذه الآيات: ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاء الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)﴾[الصافات:101-111]، إبراهيم خليل الرحمـٰن، قلبه للرحمـٰن جل جلاله، لا يلتفت إلى شيء من المخلوقات البتة، ومن استغنى بالله كان أغنى الناس وإن كان وحيدا شريدا طريدا ليس معه ولا أحد، قلبه للرحمـٰن إبراهيم عليه السلام فاتخذه الله خليلا.
قال الله -جل وعلا- عن إبراهيم: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)﴾[النحل:120-123].
وقال عز وجل: ﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى (34) أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)﴾[النجم:33-37]، قال الله عنه: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)﴾ إلى أن قال الله: ﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)﴾[البقرة:14-130]، وقال الله: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً (125)﴾[النساء:125]، وقال الله: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾[الممتحنة:4]، ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾[البقرة:260]،  لو كان شك لكنا أحق بالشك من إبراهيم كما قال –عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ-، وقال الله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ﴾[البقرة:258]، وقال الله في آيات أخرى، ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ﴾[الأنعام:83]، إذا صدق العبد ألقى الله الحجج على لسانه وعلى قلبه، وهـٰذا من نصر الله لأوليائه، هـٰذه الحجج من الله ولكن ألقاها على قلب إبراهيم ولسانه ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)﴾[الأنعام:83].
ثم استمعوا إلى هـٰذا الدعاء الذي نختم به عن إبراهيم ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (36) رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ﴾[إبراهيم:35-37] ألق في قلوب الناس أن يأتوا إلى ابني وأمه، أنظر كيف ينظرون إلى الأمور، ألق في قلوب الناس أن يأتوا إليهم؛ لأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمـٰن، فهؤلاء الأنبياء يختصرون الطريق لا يعتمدون على الأسباب ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء (38) الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)﴾[إبراهيم:37-41]، قال الله في الآية الأخرى: ﴿وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُـشْرَى قَالُواْ سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَـذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ (75)﴾[هود:69-75].
ما أعظم ما في قصته من العبر، وما أكثر ما قص الله علينا قصص إبراهيم، اللهم ألزمنا ملة إبراهيم أحينا عليها وأمتنا عليها يا رب العالمين، اللهم ارزقنا حب إبراهيم واتباع إبراهيم ومحمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يا رب العالمين، اللهم إنا أصبحنا وأمسينا على كلمة الإخلاص وعلى شهادة أن لا إلـٰه إلا الله وأن محمدا رسول الله، وعلى ملة إبراهيم حنيفا مسلما وما كان من المشركين.
اللهم إنا لن نبلغ أعمالهم ولا عشر معشارها، اللهم ارزقنا محبتهم يا رب العالمين، اللهم أرزقنا محبتهم، اللهم ارزقنا التأمل في ملتهم واتباعها والتدبر فيها والاقتداء بهم فيها يا رب العالمين.
اللهم ألزمنا طريقتهم، اللهم ألزمنا طريقتهم، اللهم ألزمنا طريقتهم، اللهم أعطنا من فضلك يا رب العالمين، اللهم لا تكلنا لأنفسنا طرفة عين، اللهم فقهنا في كتابك وفي سنة نبيك -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد.