هل من مذهب أهل السنة والجماعة أن الله تعالى يتجلى لعباده في صور شتى؟
رقم الفتوى
41988
تاريخ الفتوى
1/4/1435 هـ -- 2014-02-01
السؤال
المكرم الشيخ عبد الرحمن البراك حفظه الله ونفع بعلمه.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
أود السؤال عن: هل من مذهب أهل السنة والجماعة أن الله تعالى يتجلى لعباده في صور شتى؟ ومن ذلك أنه تجلى لموسى عليه الصلاة والسلام في صورة النار لما كلَّمه؟ حيث سمعت من يقول بذلك، ولكن يقول: ليست هي ذات الله وإنما هي صورة يتجلى الله فيها لعباده, ومما يستدل به الحديث الطويل في الرؤية يوم القيامة، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: (فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة)؟ أفيدونا جزيتم خيرا.
الإجابة
ج: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، أما بعد؛ فمن المعلوم من مذهب أهل السنة والجماعة إثباتُ الرؤية لله تعالى؛ أي إن الله يُرى، وأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة عيانا بأبصارهم، كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، وكذلك يثبت أهل السنة الصورة لله تعالى، فيقولون: لله صورة لا تشبه صورة أحد من المخلوقين، كما أن له تعالى وجها لا يشبه وجه أحد من العباد، وأنه سبحانه يتجلَّى لمن شاء، أي يظهر لهم بصورة يعرفونه بها، أو بصورة لا يعرفونه بها، كما في الحديث الطويل الذي وردت الإشارة إليه في السؤال، فنقول: إنه تعالى يتجلَّى لمن شاء كيف شاء، ولا نقول: بصور شتَّى، ولا نعلم أنه تعالى تجلَّى في الدنيا لأحد نبيٍّ أو غير نبيٍّ، ولا لشيء، إلا للجبل الذي كلَّم اللهُ عليه موسى عليه السلام، (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا)، وأما القول بأنه تجلَّى بصورة النار ففيه نظر، بل الأظهر أن هذا القول خطأ، ولو كان هذا صحيحا لصح أن أقول: إن موسى رأى الله في صورة نار، ولم يقل بذلك أحد من أهل العلم المعتبرين، فهو قول باطل.
وهذه النار التي رأى موسى هي نورٌ ظنَّه موسى نارا يمكن القبس منها، (سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ)، والنور قد يُسمَّى نارا، كما في حديث أبي موسى رضي الله عنه في صحيح مسلم، وفيه يقول النبي صلى الله عليه وسلم عن الله: (حجابه النور)، وفي رواية في الصحيح أيضا: (النار)، وتفسَّر النار بالنور، فتتفق الروايتان.
وقد سمَّى الله ذلك النور الذي رآه موسى نارا، قال تعالى: (أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا)، واختلف المفسرون في المراد بمن في النار وبمن حولها، فنقل عن جمهور مفسري السلف؛ كابن عباس ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير أن المراد بمن في النار: الله نفسُه، أي في نوره، فالنار هي نورٌ، كما رواه ابن أبي حاتم وغيره.
وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية ما رواه ابن أبي حاتم من ذلك بأسانيده، ولم يعلِّق عليه بشيء، قال: وروي عن السدي وحده أن المراد بمن في النار الملائكة.
وقد ضعَّف شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله القول الأول، ورجَّح قول السدي، ولم يذكر سببًا للترجيح والتضعيف، ولعل السبب تعظيمُه لله عن أن يكون في النار، وأن يوصف بأنه بورك، والذين حكوا قول السلف من الأئمة كابن جرير وابن كثير وشيخ الإسلام ابن تيمية حكوه ولم يضعفوه، بل سكتوا. وفي قول الإمام ابن تيمية "وروي عن السدي وحده" إشارة منه إلى ترجيح قول الجمهور.
وهذا النور ـ والله أعلم ـ هو الحجاب الذي ذُكر في حديث أبي موسى، وهو النور الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، كما في حديث أبي ذر: قال: كنت أسأله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ قال: (رأيت نورا)، وفي رواية في الصحيح أيضا: (قال نور أنَّى أراه؟)، فهذا النور كشف الله منه ماشاء لموسى حين سطع في البقعة المباركة من الشاطئ الأيمن التي فيها الشجرة، فجاء لموسى النداء من جهة الشاطئ الأيمن في تلك البقعة، ومن تلك الشجرة، (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ)، أي جاءه النداء من الشجرة في البقعة المباركة من جهة الشاطئ الأيمن للوادي، والمنادي هو الله تعالى؛ لقوله تعالى: (أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)، وقوله سبحانه: (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى. إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ)، ولا يلزم من ذلك نزوله تعالى إلى الأرض، ولا حلوله في الشجرة؛ فإنه تعالى قادر على أن يكلم من شاء من البشر وهو على عرشه، إن الله على كل شيء قدير. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما كلَّم الله موسى كان النداء في السماء، وكان الله في السماء. رواه عنه البخاري في خلق أفعال العباد.
وعلى هذا؛ فلا يُستعظم أن يخبر الله عن نفسه أنه في النار التي هي نور، و(بورك) قال فيها ابن عباس: "قُدِّس"، وهو سبحانه وتعالى تسبحه الملائكة وتقدس له، والمراد بمن حولها قيل: الملائكة، وقيل: موسى والملائكة. والله أعلم بحقيقة مراده من كلامه، وصلى الله وسلم على محمد. حرر في غرة ربيع الآخر 1435ه.