مقدمة للكاتب / عبدالله زقيل
الحمدُ للهِ والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم ...
قال تعالى : \" وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ \" [ محمد : 30 ] .
قرأتُ في \" ذكريات \" الأديب الأريب الشيخ علي الطنطاوي - رحمه الله - كلاماً رائعاً عن فتنة القومية والاشتراكية التي عاصرها ، وحاربها ومن معه باللسانين .
قال الشيخ علي الطنطاوي (8/138) : \" كانت فتنةُ القومية ، وتعبنا في جدال هؤلاء القوميين ، نتبعُ في ذلك الأمير شكيباً وإخوانه ( شكيب أرسلان ) ، ويتبعنا من جاء بعدنا ، كتبتُ في ذلك عشرات من الصفحات ، وألقيتُ في ذلك عشرات ( عشرات حقاً ) من الخطب والمحاضرات ، لنبين للناس أننا لا نعادي العربية ، وإنما ندافع عن الإسلام ، وأننا نعرف للعروبة قدرها ، ولكن تحت راية الإسلام .
ثم كانت فتنة الاشتراكية ، وخُدع ناس من أفاضلنا فقالوا : \" اشتراكية الإسلام \" ألف في ذلك صديقنا الداعية إلى الله الرجل الصالح الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله .
ولقد حضرتُ محاضرته في الجامعة السورية عن هذه الاشتراكية التي سماها إسلامية ، على ندرة ما أحضر من المحاضرات ، وكان إلى جنبي في الصف الأول أخي ورفيقي في كلية الحقوق وأحد أصدقاء عمري ، الشيخ مصطفى الزرقاء ، فكنتُ أعترضُ أخانا الشيخ السباعي كلما اختار حكماً فقهياً ضعيفاً يراه أقرب إلى الاشتراكية ، وأقاطعه وأنا في مكاني ، وكان بيني وبينه مناقشة بعد ذلك في الصحف ، قلت له فيها ، وقال لي ، وأنا أشهد له وقد مضى إلى لقاء ربه ، أنه ما أراد بما كتب إلا الخير ، وأن يقرب الاشتراكيين إلى الإسلام ، ولكن الاشتراكيين كانوا أوسع حيلة ، وأقوى أداة ، وأكثر وسائل ، فاتخذوا كتابه ذريعة لتقريب المسلمين من الاشتراكية ، وما أراد إلا أن يقرب الاشتراكيين إلى الإسلام .
ونفخ عبد الناصر في بوقها ، وجاء برجل طويل اللسان ، غير نظيف الجنان ، ثقيل الدم ، سقيم الفهم ، ينعب من صوت العرب ، يقول ما يستخف الحليم الوقور ، من العدوان على الحق ، بالسفاهة والمراء الباطل ... \" .ا.هـ.
وبعد كلام الشيخ علي الطنطاوي الآنف تذكرتُ ما نعاصره الآن من الفكر الليبرالي الذي تريدُ أمريكا فرضه على المجتمعات الإسلامية عن طريق أذنابها ممن يتكلم بألسنتنا ، فانبرى لها أهل العلم في بيان ضلاله وزيغه وزيفه ، ومنهم العلامة الشيخ صالح الفوزان - حفظه الله - فحذر منها عن طريق السؤال الذي ورد إليه ، فقامت قيامةُ بعض الكُتّاب بسببها ، وبطريقةٍ تشعرك بلوبي إرهابي منظم يرمون عن قوس واحد الشيخ واتهموه بـ \" التكفيري ! \" .
واليوم كتب الصحفي داود الشريان حقيقة الهجوم الليبرالي ، وسماه \" إرهاباً ليبراليا \" ، ولا شك أنه إرهاب بحكم المنابر التي يكتبون فيها بكل حرية ، وبدون خوف ولا خجل ، وعجبي لا ينقضي من سكوت العقلاء من طلبة العلم والمثقفين والأدباء الأحرار من هؤلاء وفضحهم .
اللهم احفظ بلادنا من هذه الشرذمة التي أخشى أن يأتي يوم وبسبب سكوتنا أن نقول : أُكلت يوم أكل الثور الأبيض .
الآن مع مقال الكاتب / داود الشريان
سئل الشيخ صالح بن فوزان الفوزان عضو هيئة كبار العلماء في السعودية عن حكم الدعوة الى الليبرالية التي تفرغ الاسلام من قواعده الأساسية ليتوافق مع المفاهيم والقيم الغربية، تحت مسمى «الإسلام الليبرالي» أو «الاسلام المدني»، فكان جواب الشيخ ان المسلم الذي «يريد الحرية التي لا ضابط لها إلا القانون الوضعي هذا متمرد على شرع الله يريد حكم الجاهلية وحكم الطاغوت، فلا يكون مسلماً».
فانبرت أقلام صحافية للتنديد بإجابة الشيخ صالح، واعتبرت تكفيره لليبرالية، التي تؤمن بكل او بعض مفاهيم العلمانية كأساس فكري لها، جزءاً من حملة التكفير التي يواجهها المجتمع من بعض التيارات المتشددة، مما اضطر الشيخ الى نشر توضيح لموقفه قال فيه : «ثارت ضجة من بعض الناس وصنفوا هذا الجواب على منهج من يسمونهم بالتكفيريين الذين يكفرون الناس بغير حق على طريقة الخوارج الضلال، ونزلوه على أناس لم أقصدهم وإنما قصدت الإجابة على السؤال فقط، لأن ما ذكر فيه هو من نواقض الإسلام المعروفة عند أهل العلم، فأنا - والحمد لله - لم أبتدع قولاً من عندي، وأبرأ إلى الله من تكفير الأبرياء أو التكفير على غير الضوابط الشرعية ...» .
لا شك في ان الاهتمام المتزايد في السنوات الخمس الأخيرة بما يسمى بـ «الليبرالية الإسلامية» جاء استجابة لتقرير الباحثة شيريل بينارد، التي تعمل في قسم الأمن القومي بمؤسسة «راند» الأميركية، الصادر عام 2003 بعنوان «الإسلام المدني الديموقراطي .. الشركاء والموارد الاستراتيجية» ، والذي كان من بين أهدافه مساعدة صانع القرار الأميركي والأوروبي في التدخل عملياً لتهميش التيارات الإسلامية المعادية للقيم الأميركية والغربية ، وتطوير «اسلام ليبرالي» يكون مدخلاً لتطوير ممارسة ما يسمى بـ «الديموقراطية» التي بدأ تنفيذها في العراق، من خلال دعم التيارات العلمانية، وتمكينها من المشاركة في السلطة.
لكن الاستجابة الجديدة لبلورة وتطوير ما يسمى «الإسلام المدني الديموقراطي» في السعودية ودول الخليج اتسمت بالسطحية، حتى لا نقول السذاجة، فهي لم تلجأ مثلاً الى بناء مفاهيم جديدة تحمل اطاراً اسلامياً وتستند الى مضمون انتقائي لليبرالية الغربية، يمكن الحوار حوله، مثلما حدث في بيئات عربية وإسلامية أخرى سبقت منطقة الخليج في هذه القضية، كمصر وتركيا مثلاً، التي شهدت محاولات، وصفها بعضهم بالمزيفة، للمصالحة بين الإسلام والعلمانية، تحت شعار الليبرالية، أو الإسلام المدني.
لكن تلك المحاولات بقيت تراوح في أروقة النخب الفكرية والسياسية، ولم تستطع تحقيق هدفها والوصول إلى الناس، رغم اعتمادها على التأصيل والعمق، لأنها ببساطة تنطوي على تناقض صارخ، وتعتمد أسلوب المساومة على مبادئ الإسلام .
أما المحاولات في السعودية ودول الخليج لبلورة تيار ما يسمى «الإسلام الليبرالي» فانطلقت من فكرة أن «الليبرالية» مجرد كلمة مرادفة للوسطية أو التسامح، أو العصرنة والتجديد، وفي أكثر التفسيرات عمقاً فصل الدين عن الدولة، استناداً الى مقولة «إن الإسلام دين وأمة، وليس ديناً ودولة» وفي أعمقها سطحية فإن «الليبرالية الإسلامية» تعني عند هؤلاء السماح للمرأة بقيادة السيارة، وإلغاء «هيئة الأمر بالمعروف»، وإلغاء الحجاب، وإصلاح مناهج التعليم، بمعنى انها لا تستند إلى رؤية عميقة، فضلاً عن أنها ليست أصيلة، وهي في أحسن الأحوال استجابة مجانية للحملة الأميركية على ما يسمى «الإرهاب الإسلامي» التي تسعى إلى تذويب المبادئ الإسلامية ومناهضة المرجعية التشريعية المستمدة من الإسلام، وتوظيف كل ذلك لتبرير الهجوم على المنطقة وأنظمتها السياسية والاجتماعية، باسم نشر الديموقراطية وحقوق الإنسان !
الأكيد أن الشيخ صالح الفوزان لم يكن مضطراً لشرح رأيه المبني على موقف الإسلام، لكن الساحة العربية والإسلامية أصبحت تواجه إرهاباً ليبرالياً لا يقل تشدداً وشراسة ورفضاً للرأي الآخر عن ذلك الإرهاب الفكري المتشح بالدين. فلجوء الشيخ الى كتابة توضيح دليل على اننا نعاني تطرفاً مضاداً، وطالما استمر ما يسمى بالتيار الليبرالي الإسلامي في التعامل مع مسألة القيم الدينية والاجتماعية بهذا الاستخفاف والتبسيط، فإن لغة العنف ستشهد نمواً هائلاً في المرحلة المقبلة .