القول المختصر في مسألة العذر بالجهل
الحمد لله وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم وبعد : فإن مسألة العذر بالجهل يمكن أن نقسمها إلى قسمين : قسم لايعذر فيها المسلم بالجهل وقسم يعذر فيها بالجهل وسأتحدث عن القسمين بشيء من التفصيل فأقول وبالله التوفيق[1]:
القسم الأول :" أصول الدين لا يعذر فيها أحد بالجهل مادام قد بلغه القرآن بلغته ويفهمه لو أراد الفهم ولكنه أوتي من تساهله وعدم مبالاته " .
إذا يشترط شرطان :
أولهما : أن يبلغه القرآن والسنة ، والدليل على هذا من القرآن والسنة .
أما من القرآن فيدل عليه قوله تعالى : {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ..}الأنعام19
قال الطبري –رحمه الله – في تفسيره للآية : "فمعنى هذا الكلام: لأنذركم بالقرآن أيها المشركون، وأنذر من بلغه القرآن من الناس كلهم "
وأما من السنة فيدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: « والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار » .
قال الشيخ ابن باز –رحمه الله - : "من بلغه القرآن والسنة غير معذور ، إنما أوتي من تساهل وعدم مبالاته " .
وقال –أيضا- : "أصول الدين لا يعذر فيها بالجهل لمن هو بين المسلمين ويسمع القرآن ويسمع الأحاديث، الاستغاثة بأصحاب القبور والنذر لهم ودعاؤهم وطلبهم الشفاء والمدد، كل هذا من أعظم الشرك بالله عز وجل.."
وأما الشرط الثاني فهو : أن يكون البلاغ بلغة المبلغ إليه ليكون أبلغ في الحجة عليه .
والدليل على ذلك قوله تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }إبراهيم: 4
قال الطبري –رحمه الله في تفسيره لهذه الآية : "قوله تعالى ذكره: وما أرسلنا إلـى أمة من الأمـم يا مـحمد من قبلك ومن قبل قومك رسولاً إلا بلسان الأمة التـي أرسلناه إلـيها ولغتهم، { ليُبَيِّنَ لهم } يقول: لـيفهمهم ما أرسله الله به إلـيهم من أمره ونهيه، لـيثبت حجة الله علـيهم، ثم التوفـيق والـخذلان بـيد الله، فـيخذل عن قبول ما أتاه به رسوله من عنده من شاء منهم، ويوفِّق لقبوله من شاء ولذلك رفع «فـيُضلُّ» ".
قال ابن القيم في طريق الهجرتين : " والإسلام هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له والإيمان بالله وبرسوله واتباعه فيما جاء به فما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم وإن لم يكن كافرا معاندا فهو كافر جاهل " .
وقال الشيخ سليمان بن سحمان –رحمه الله - "ما يعلم من الدين بالضرورة، فهذا لا يتوقف في كفر قائله" .
وقال الشيخ ابن باز –رحمه الله - : "أمور التوحيد ليس فيها عذر ما دام موجوداً بين المسلمين... ويسمع قال الله وقال رسوله، ولا يبالي ولا يلتفت (وجاء القرآن وهم بين أيدينا يسمعونه في الإذاعات ويسمعون في غيرها)، ويعبد القبور ويستغيث بها، أو يسب الدين فهذا كافر، يكفر بعينه، كقولك: فلان كافر، وعلى ولاة الأمور من حكام المسلمين أن يستتيبوه فإن تاب وإلا قتل كافراً ".
وقالت اللجنة الدائمة : "من نطق بالشهادتين مصدقا بما دلتا عليه وعمل بمقتضاهما فهو مسلم مؤمن، ومن أتى بما يناقضهما من الأقوال أو الأعمال الشركية فهو كافر وإن نطق بهما وصلى وصام، مثل أن يستغيث بالأموات أو يذبح لهم توقيرا وتعظيما، ولا يجوز الأكل من ذبيحته."[2]
وقال الشيخ الفوزان –حفظه الله - : "من بلغه القرآن والسنة على وجه يستطيع أن يفهمه لو أراد ثم لم يعمل به ولم يقبله فإنه قد قامت عليه الحجة ، ولا يعذر بالجهل لأنه بلغته الحجة ، والله جل وعلا يقول: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } ، سواء كان يعيش مع المسلمين أو يعيش مع غير المسلمين .. فكل من بلغه القرآن على وجه يفهمه لو أراد الفهم ثم لم يعمل به فإنه لا يكون مسلماً ولا يعذر بالجهل" .
ولايعذر من قامت عليه الحجة في أصول الدين بحجة أنه لم يفهمها .
قال الإمام محمد بن عبد الوهاب –في غلاة القدرية - : "... ولم يتوقف أحد من السلف في تكفيرهم لأجل كونهم لم يفهموا، فإن هؤلاء كلهم لم يفهموا " .
وقال الشيخ أبو بطين –رحمه الله - : " وقد أخبر الله سبحانه بجهل كثير من الكفار، مع تصريحه بكفرهم، ووصف النصارى بالجهل، مع أنه لا يشك مسلم في كفرهم ; ونقطع أن أكثر اليهود والنصارى اليوم جهال مقلدون، فنعتقد كفرهم، وكفر من شك في كفرهم" .
وقال –أيضا - : "...-بعد ذكره هذه الآية - : {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} الأعراف : 30؛ فبين الله سبحانه: أنهم لم يفقهوا، فلم يعذرهم لكونهم لم يفهموا" .
القسم الثاني : يعذر الشخص في الأمور التي قد تخفى مثل : "ما يكون من خفاء في بعض الأحكام الشرعية ، أو في دقائق الصفات ونحوهما مما يخفى " أو يكون الشخص قد نشأ ببادية بعيدة لايعلم عن الإسلام شيئا أو أنه حديث عهد بكفر .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله – في شرح العمدة : "وفي الحقيقة: فكل رد لخبر الله، أو أمره فهو كفر، دق أو جل، لكن قد يعفى عما خفيت فيه طرق العلم وكان أمرا يسيرا في الفروع، بخلاف ما عظم أمره وكان من دعائم الدين، من الأخبار والأوامر، يعني: فإنه لا يقال قد يعفى عنه" .
وقال الإمام محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله - : "فإن الذي لم تقم عليه الحجة هو الذي حديث عهد بالإسلام والذي نشأ ببادية بعيدة، أو يكون ذلك في مسألة خفية مثل الصرف والعطف فلا يكفر حتى يعرف ؛ وأما أصول الدين التي أوضحها الله وأحكمها في كتابه فإن حجة الله هو القرآن فمن بلغه القرآن فقد بلغته الحجة، ولكن أصل الإشكال أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة وبين فهم الحجة فإن أكثر الكفار والمنافقين من المسلمين لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم كما قال تعالى : (( أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا)) وقيام الحجة نوع، وبلغوها نوع وقد قامت عليهم وفهمهم إياها نوع آخر وكفرهم ببلوغها إياهم وإن لم يفهموها. إن أشكل عليكم ذلك فانظروا قوله : صلى الله عليه وسلم في الخوارج (( أينما لقيتموهم فاقتلوهم )) وقوله : (( شر قتلى تحت أديم السماء )) مع كونهم في عصر الصحابة..."
وقال الشيخ ابن باز –رحمه الله - : في : "شرحه لكتاب كشف الشبهات" : " إذا كان بين المسلمين ما يعذر بالشرك أما الذي قد يخفى مثل بعض واجبات الحج أو واجبات العمرة أو واجبات الصيام أو الزكاة بعض أحكام البيع ، وبعض أمور الربا ، قد يعذر وتلتبس عليه الأمور .لكن أصل الدين كونه يقول أن الحج غير مشروع أو الصيام غير واجب أو الزكاة غير واجبة ، هذا لا يخفى على المسلمين ، هذا شيء معلوم من الدين بالضرورة " .
ولايقال لمن وقع في الشرك الأكبر فعله شرك وهو غير مشرك في أصول الدين وإنما تقال في المسائل التي تخفى
قال الشيخ محمد بن إبراهيم في : " مجموع الفتاوى" : "من الناس من يقول: لا يكفر المعين أَبدا.ويستدل هؤلاء بأَشياء من كلام ابن تيمية غلطوا في فهمها وأَظنهم لا يكفرون إلا من نص القرآن على كفره كفرعون. والنصوص لا تجيء بتعيين كل أَحد. يدرس باب (حكم المرتد) ولا يطبق على أَحد، هذه ضلالة عمياء وجهالة كبرى، بل يطبق بشرط. الذين توقفوا في تكفير المعين في الأَشياء التي قد يخفى دليلها فلا يكفر حتى تقوم عليه الحجة الرسالية من حيث الثبوت والدلالة فإذا أُوضحت له الحجة بالبيان الكافي كفر سواء فهم، أَو قال:ما فهمت، أَو فهم وأَنكر، ليس كفر الكفار كله عن عناد. أَما ما علم بالضرورة أَن الرسول جاء به وخالفه فهذا يكفر بمجرد ذلك ولا يحتاج إلى تعريف سواء في الأصول أَو الفروع ما لم يكن حديث عهد بالإسلام. والقسم الثالث أَشياء تكون غامضة فهذه لا يكفر الشخص فيها ولو بعدما أُقيمت عليه الأَدلة وسواء كانت في الفروع أَو الأُصول ومن أَمثلة ذلك الرجل الذي أَوصى أَهله أَن يحرقوه إذا مات" .
[1] مختصر من بحثي الآخر : "عقيدتي في مسألة العذر بالجهل "
[2] ج: 1/217