إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيرا.
أما بعد عباد الله اتقوا الله تعالى حق التقوى، واعلموا أنكم راجعون إليه موقوفون بين يديه حفاة عراة غُرلًا ليس معكم إلا ما قدمتم، وتركتم ما خولكم الله وراء ظهوركم فأعدوا لذلك الموقف ما تُعدون، فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، واحذروا أن يُنسيكم الشيطان ذلك الموقف فإن النسيان من أعظم جند الشيطان.
عباد الله واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد  رسول الله وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
معاشر الموحدين أيها الإخوة في الله وكما أن الحمية هي رأس الدواء كما اتفق على ذلك الأطباء، والعقلاء، والحكماء، هي رأس دواء الجسد فكذلك الحمية هي رأس الدواء في أمور الدين.
الحمية عن الشهوات والحمية عن الشبهات، والحمية عن كتب أهل البدع وسماع كلامهم، فلن تستنير بصيرتك ولن يصفوا فهمك ولن تعرف طريقك حتى تحتمي مدة طويلة عن كتب أهل البدع والتخليط والشذوذ والآراء وكتب المعاصرين إلا ما كان من الوحي.
فإذا احتميت وصفى ذهنك عند ذلك تنتفع كما قال الإمام أحمد لرجل قال: إن تركت كتب الرأي و كتب أبي حنيفة أتيناك تُسمعنا ونُسمعك كتب بن مبارك، أما أن تخلطهما فلا، فلن تنتفع بذلك.
عباد الله قال عبد الله بن عمر: لو أن رجلين خلا بمصحفهما في شعبٍ من هذه الشعاب خلوة ومع المصاحف وارتاحوا من ضغط الواقع ومسايرة الناس وتبرير الفساد عند الخاصة والعامة، لو فعلوا ذلك ثم رجعوا إلى الناس وقاسوهم على القرآن لوجدوا كل شيء قد تغير، وأما إذا كانوا معهم فإنهم لن يعرفوا خطورة الأمر، حتى الجلالة إذا أريد أن يطهر لحمها لابد أن تُحمى.
عباد الله ومن الحمية النافعة: الحمية عن مخالطة الناس، الحمية عن كثرة مخالطة الناس، وخاصة في هذا الزمن وهو ما يُسمى بالعزلة، والعزلة عزلتان: العزلة الكبرى وهي الخروج في البراري والكفار والهرب بالدين من شاهق إلى شاهق، وهذا يكون إذا اجتمعت فتن الشبهات والشهوات وفتن الدماء وأصبح الناس في هرجٍ ومرج فعليك بالعزلة الكبرى وما أظنها إلا قريبة.
والعزلة الثانية: العزلة الصغرى أن تلزم بيتك وأن تُقل من معرفة الناس ومن مخالطتهم والخوض معهم، وأن تُقبل على شأنك وأن تخلوا بمصحفك، وفي مسجدك وفي كتب أهل العلم، فلا أسلم من عزلة ولا أنس من كتاب ولا أوعظ من قبر.
هذه العزلة كانوا أسلافكم يأخذون بحظ منها أو بها كلها، فمن ذلك أيها الإخوة: إبراهيم الخليل عليه السلام، لما دعا قومه ورأى شحاً مطاعاً وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه قال: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا}[مريم:48]، {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا}[مريم:49]، وهذه والله من بركات العزلة أن يُبارك لك في ذريتك من ترك شيئاً لله عوضه الله خيرٌ منها.
فالعزلة من ملة إبراهيم الصغرى والكبرى، وقال موسى عليه السلام: {وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ}[الدخان:21]، وقال داود في حكمته: حقٌ على العاقل ألا يغفل عن ساعات، منها ساعة يخلوا بربه يُحاسب ربه ألا يحتمي ألا ينفرد من الناس، دائماً معهم يخوض متى يعرف هل هو على صواب أو خطأ متى يُحاسب نفسه.
وكان نبيكم  قد أخذ بنصيبه من العزلة قبل البعثة، قالت عائشة: كان يخرج إلى غار حراء يتحنث الليالي ذوات العدد شهر أو قريب منه ثم ينزل إلى خديجة ويتزود ثم يصعد الجبل لوحده في هذا الغار لما رأى أمراً منكرا وهيئه الله النبوة، وبعد النبوة اعتزل في الشعب ثلاث سنين وأمر أصحابه أن يعتزلوا بالحبشة وأمرهم بالهجرة والذهاب عن الأماكن الموبوءة بالشرك، وهل الهجرة إلا من العزلة وهل العزلة إلا من الهجرة.
وهجر البدع وأهلها والشرك وأهله، وقد كان  لما سأله عقبة بن عامر فقال: يا رسول الله ما النجاة؟ قال: أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وأبكي على خطيئتك هذه النجاة وأصحاب الكهف الفتية، لما رأوا أمراً منكرا، قالوا: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ}، إن عواقب العزلة إذا كانت على السنة ولله عواقبها طيبة ينشر لكم ربكم من رحمته، {وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا}[الكهف:16].
وعن عبد الله بن عمر قال: ذكر رسول الله  الفتنة فذكر من علاماتها وانتبهوا لهذه العلامات عندها تحل العزلة، من علاماتها قال: إذا كنت في حثالة من الناس كحثالة الشعير، حثالة الشعير ما يتساقط من قشوره من المنخل خفيف مؤذي يطير في الحلق وفي الخياشيم رائحته كريه ليس منه فائدة فإذا أصبح الناس هكذا كحثالة الشعير مرجت عهودهم وأماناتهم لا عهد ولا أمانة وكانوا هكذا وشبك  بين أصابعه وحين لا يأمن الرجل جليسه يا لها من علامة حين لا يأمن الرجل جليسه لا يدري بأي وجه يُقابله.
قال عبد الله بن عمر: فقلت: فداك أبي وأمي فما تأمرني عند ذلك؟ قال: ألزم بيتك وأمسك لسانك هذا ثنتان، وفي أمر الدين وخذ ما تعرف ودع ما تُنكر، وفي أمر دنياك، وعليك بأمر خاصتك ودع عنك أمر العامة، خوضهم وسياساتهم وأمورهم دع عنك أمر العامة عليك بما يُصلحك أمر خاصتك، وخذ ما تعرف ودع  ما تُنكر، يا لها من حكمة، يا لها من سنة لو وافقت قلوبنا.
وعن حذيفة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال في الأمر الكبير قال: اعتزل تلك الفرق كلها ولو أن يأتيك الموت وأنت عاض على أصل شجرة، وفي حديث بن أبي سعيد قال عليه الصلاة والسلام: يوشك أي قريباً أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال وبواقع القطر يفر بدينه من الفتن، وفي حديث أبي سعيد أي الناس أفضل يا رسول الله؟ قال: اثنان مؤمن مجاهد الجهاد كله والقتال منه بنفسه وماله، ومؤمن في شعب من هذه الشعاب يعبد ربه ويدع الناس إلا من خير.
وفي حديث أبي موسى: إن بين أيديكم فتناً كقطع الليل المظلم، يُصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافرا، وفي رواية قالوا: ما تأمرنا؟ قال: كونوا أحلاس بيوتكم، والحلس هو الفراش الذي في البيت لا يُنقل منه كونوا أحلاس بيوتكم.
قال عمر-رضي الله عنه-: خذوا بحظكم من العزلة، لابد أن يكون لك حظ من العزلة في كل يوم ولو بعد الفجر إلى طلوع الشمس وقبل الغروب وفي الليل لابد أن يكون لك حظ من العزلة.
وقال عمر: اتقوا الله واتقوا الناس، وقال عمر: العزلة راحة من خليط السوء، وقال طلحة لما سئل لما لا تُكثر مخالطة الناس-رضي الله عنهم جميعا- قال: إن أقل لعيب المرء أن يجلس في بيته، وقال أبو الدرداء: نعم صومعة الرجل بيته يكف سمعه وبصره ولسانه ويذكر ربه ويقرأ في مصحفه، نعمة الصومعة.
وقال سعد بن أبي وقاص لما جاءه ابنه عمر وقال: يا أبتي أيراك أعرابياً والناس يقتتلون على الملك ولا أحد أولى به منك وأنت من الستة أهل الشورى، ضرب في صدره، وقال: أعوذ بالله منك ومن شرك ومن فتنتك إني سمعت رسول الله  يقول: إن الله يُحب العبد التقي الخفي الغني غنى النفس، ثم ضرب سعد مثلاً عظيماً فقال: ما مثلي ومثلكم في هذه الفتن إلا كقوم كانوا على الطريق فأصابتهم عجاجة لا يرون فيها شيئا فبعضهم أخذ يميناً وقال : الطريق من هاهنا فضلوا، وبعضهم أخذ شمالاً وقال: الطريق من هاهنا فضلوا، وقال العقلاء نجلس حتى إذا أصبحنا رأينا الطريق، فناموا في مكانهم فانجلت العجاجة فإذا هم على الطريق وإذا أصحابهم قد هلكوا، هكذا والله تصنعون إذا هاجت الفتن ومرجت عهود الناس وأماناتهم امكثوا في بيوتكم وخذوا ما تعرفون ودعوا ما تنكرون تسلموا بإذن الله.
وبنا عروة بن الزبير قصره في العقيق بعيداً عن المدينة فقيل له تترك المدينة وتمكث في العقيق، قال: إني لما رأيت مساجدكم لاهية ورأيت أسواقكم لاغيه والفاحشة أي الخروج عن الحد في الدين وفي المروءة في فجاجكم عالية رأيت في العقيق عما أنتم فيه عافية.
وقال الحسن البصري: إذا قنع ابن آدم استغنى وإذا اعتزل سلم، وإذا ترك الشهوات أصبح حرا، وإذا ترك الحسد ظهرت مروءته وإذا صبر قليلا تمتع طويلا.
وقال عبد الله بن عباس: لولا مخافة الوسواس لدخلت بلاداً لا أنيس بها وهل يُفسد الناس إلا الناس، وقال بكير بن الأشج لسيار بن عبد الرحمن: ما فعل عملك قال: لزم البيت منذ كذا وكذا، قال: أما إنا رجال من أهل بدر لما قتل عثمان لزموا بيوتهم فلم يخرجوا منها إلا إلى قبورهم.
وكان أبو جهيم الحارث بن السمة الأنصاري –رضي الله عنه- من أعبد أصحاب محمد وأكثرهم خوفاً وخشية وكلهم كانوا كذلك وكان صاحب عزلة، دائماً يشتغل بنفسه ولا يُخالط الناس ولا يُرى إلا في خير، فلما سئل عن ذلك، قال: ما رأيت في هذه المخالطات إلا شرا، وكان يجلس عنده عبد الله بن عمرو فيتحدثان في الفتن واعتزالها فلما شارك عبد الله لسببٍ يخصه لطاعة أبيه شارك في صفين وعلم أبو جيهم قال: يجلس معي ويُحدثني ثم يُشارك لا كلمته أبدا.
وقال أبو مهلهل: اخذ بيدي سفيان الثوري فأخذنا في طريق الجبانة فاعتزلنا ناحية من الناس فبكى وقال: يا أبي مهلهل إن استطعت ألا تتعرف على أحد بعد اليوم من الناس فافعل ولا تُخالطهم إلا في خير وارغب إلى ربك في حوائجك واحذر أبواب الأمراء وأبواب الأغنياء واحذر الناس، والله يا أبو مهلهل لأعلم اليوم رجلاً بالكوفة إن فزعت إليه يُقرضني في عشرة دراهم أن يسترني حتى يذهب ويجيء ويقول: جاءني سفيان واستقرضني فأقرضته، فيا أبو مهلهل أرغب بحوائجك إلى الله جلا وعلا وأقل من مخالطة الناس، هذا كان في الزمان الأول.
وقال حذيفة: والله لو وددت أن لي إنسان يعمل في مالي وأني دخلت في هذا البيت فلا يراني الناس إلا في خير، وقال محمد بن سيلين: يا عباد الله العزلة عبادة، العزلة حمية، وقال بكر بن سواده، ذكر لأبي الدرداء رجل من أهل الشام في الجند يعتزل الناس مقبلاً على شانه فأخذ أبو الدرداء يبحث عنه حتى وجده فقال: ما حملك على هذا؟ يستكشف ما عنده، قال: يا أبا الدرداء إني أخاف أن يُسلب ديني وأنا لا أشعر من مخالطة الناس، إني أخاف أن يُسلب ديني قليلاً قليلاُ وأنا لا أشعر من مخالطة الناس.
ففرح أبو الدرداء وقال لمن حوله: أتظنون أن في الجند مثل هذا مائة ستنصرون مثله تسعون ثمانين حتى بلغ عشرة، قال لو كان فيهم مثل هذا لنصرتم، وقال الأوزاعي: العافية عشرة أجزاء، تسعة منها في الصمت والعاشر في العزلة وترك فضول مخالطة الناس.
يا عباد الله احتموا حتى تنتفعوا بالقرآن يا عباد الله احتموا حتى تنتفعوا بالسنة، يا عباد الله إن احتميتم لم تقعوا في ما قاله حذيفة: أخوف ما أخاف عليكم أن تؤثروا ما ترون على ما تعلمون، وأن تضلوا وأنتم لا تشعرون، والله إن أعظم سبباً لهذا كثرة المخالطة والقراءة في كلام الرجال وترك الوحي، إن أخوف ما أخاف عليكم أن تؤثروا ما ترون على ما تعلمون، الواقع على العلم والوحي، وأن تضلوا وأنتم لا تشعرون.
اللهم وفقنا لطاعتك، اللهم أهدنا لها يا رب العالمين، اللهم وفقنا لحظنا من العزلة والإقبال عليك يا رب العالمين وتدبر آياتك اللهم ارزقنا حمية نافعة يخرج منها السم من أبداننا وأذهاننا وقلوبنا يا رب العالمين، أنت مولانا نعم المولى أنت ونعم النصير وأنت حسبنا ونعم الوكيل.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم استغفروه.
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيرا.
عباد الله اتقوا الله جلا وعلا، ومن أسباب تقواه أن تعتزلوا وتتفكروا فيما أمامكم وما خلفكم وما خلقتم له وكتاب الله الذي أنزل عليكم، إن من أسباب التقوى هذا ورب الكعبة.
قال سعيد بن المسيب-رحمة الله عليه-: خذوا بحظكم من العزلة فإنها عبادة، وقال أيضاً تفقه ثم اعتزل، وقاله الربيع بن ...حتى لا يأتيك الوسواس إن العزلة إذا كانت عن علم وعلى سنة فما أنفعها .
وقال سفيان: قيل له أين ننزل قال: بمر الظهران حتى لا يعرفك إنسان هناك تنتفع بحياتك، وقال سفيان: أقل معرفة الناس تقل غيبتك ونميمتك وحسدك وبغضائك وهمك، وقال سفيان: أقل من معرفة الناس فو الله لو خالفت أحدهم في رمانه فقلت حلوة وقال: حامضة لما أمنت أن يشيط بدمه إلى سلطان فاجر، وهكذا قاله الفضيل بن عياض.
وقال الفضيل: من لم يأنس بالقرآن فلا أنس الله وحشته وكان يُقال: من رأيتموه يركن إلى الناس وإذا فقدهم فقد الاستئناس فاعلموا أنه في غاية الإفلاس.
وقال رجل لبعض السلف: أكون معك قال: يا ابن أخي إن العبادة لا تكون بالشركة، إن العبادة ليست بالشركة أقبل على شانك وأقبل على شأني، وقال مالك –رحمه الله- الإمام قال: كان الناس الذين مضوا يحبون العزلة والانفراد من الناس إلا في جمع وجماعات وأعياد وجنائز وما سوى ذلك فكانوا يحبون العزلة ثم أخذ أبو عبد الله يُعدد مشايخه فقال: كان محمد بن عبد الرحمن يتيم عروة، كان صاحب عزلة وحج وغز مقبلٌ على شانه، وكان سالم أبو النذر صاحب عزلة، كان ربما جلس في مجلس ربيعه فإذا خاضوا قام وتركهم، وكان زياد مولى أبي عياش صاحب عزلة، وأخذ يُعدد مشايخه –رحمه الله ورحمهم-، وقال عثمان ابن أبي العاص-رضي الله عنه-: لولا الجمع والجماعات لبنيت غرفة في أعلى داري ولم أخرج إلا إلى قبري.
قال عبد الله بن مبارك: من العزلة ألا تخوض مع الخائضين وإن كنت وسطهم، هذه أيضاً عزلة، من العزلة ألا تخوض مع الخائضين، قال بعض السلف: من أكثر مخالطة الناس في مجالسهم لا يسلم من إحدى ثنتين إما أن يخوض مع الخائضين وإما أن يداهن مع المداهنين فيرى منكراً ولا يُنكره إلا من رحم ربك.
فيا عباد الله اعرفوا ما في هذه المخالطات من السوء تعرفوا قدر العزلة، وقال مالك بن دينار: كان من كان قبلكم يتواصون بثلاث بسجن اللسان وبكثرة الاستغفار وبحظ من العزلة، وقال عبد الله بن مسعود-رضي الله تعالى عنه- لأصحابه: كونوا ينابيع العلم، العلم في قلوبكم ليس في أوراقكم كونوا ينابيع العلم مصابيح الهدى، خلقان الثياب جدد القلوب أحلاس البيوت تعرفون في أهل السماء وتخفون على أهل الأرض، كذلك فكونوا إن شاء الله.
اللهم وفقنا لما تحب وترضى يا رب العالمين.
عباد الله الحديث الذي يخالط الناس ويصبر على آذاهم خير من الذي لا يُخالطهم ولا يصبر على آذاهم هذا في وقت ،وحديث أبي ثعلبه الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام: «إذا رأيت شحاً مطاعا وهوى متبعاً ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العامة»، هذا في وقت، وكله من عند الله فإذا رأيت قبولاً وإقبالاً ومحبة للخير فخالطهم وعلمهم وأصبر على آذاهم، وإن رأيت إعجاب كل ذي رأيٍ برأيه فخالطهم في المساجد والجمع والجماعات والجنائز وعلم من استطعت واقبل على شانك واضرب بحظك من العزلة.
يقول ربنا جلا وعلا: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا}[الكهف:9]، {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً}، يا لها من عزلة كانوا أبناء نعيم وأبناء ملوك تركوا القصور وتركوا الدور وأووا إلى كهفٍ في رأس جبل فراراً بالدين من الفتن، {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا}[الكهف:10]، {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا}[الكهف:11]، {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا}[الكهف:12]، {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}[الكهف:13]، {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا}، لما قاموا أبصروا، { فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا}، ما جاءهم رسول والله، لن ندعوا من دونه إلها، { لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا}[الكهف:14]، {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ}، المطالب بالدليل المشرك وليس الموحد، { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}[الكهف:15]، {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا}[الكهف:16]، {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا}[الكهف:17].
اللهم أهدنا بهدايتك، اللهم ارزقنا منها النصيب الأوفى يا رب العالمين، اللهم اعصمنا من الضلالة، اللهم إنا نعوذ بك أن نرى الباطل ونركبه نحسبه هدى، اللهم إنا نعوذ بك أن نركب الباطل نحسبه هدى فقد بينت الأمور وتركنا على الواضحة ولا عذر لنا ولا حجة، اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه، والباطل باطل وارزقنا اجتنابه، اللهم اجعلنا ممن أقبل على شانه وأمسك بلسانه وبكى على خطيئته وعمل لآخرته وترك الناس إلا من خير يا رب العالمين يا حي يا قيوم أنت حسبنا ونعم الوكيل.
اللهم صلي وسلم على عبدك ورسولك محمد.