إن الحمد لله نحمد ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدي الله فلا مُضل له ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيرا.
أما بعد عباد الله اتقوا الله  بترك المحارم وإقامة الفرائض، والتقرب إليه بما يُحب إنكم بين مخافتين بين عملٍ قد مضى لا تدرون ما الله صانعٌ فيه، وبين أجلٍ قد بقي لا تدرون ما الله قاضٍ فيه، فبينما أنتم بين هاذين إذ انتهت المهلة ووضعتم في صدع من الأرض، أحدكم غير ممهد ولا موسد قد فارق الأصحاب وانقطعت عنه الأسباب وبقيت له رحمة أرحم الراحمين والعمل الصالح.
فيا عباد الله اتقوا الله  ولا تكونوا من المغترين فما ضرب القلب بمرض أشد ولا أفتك من الغفلة ومن الاغترار بالله والأمن من مكر الله ونسيان الدار الآخرة والركون إلى الدنيا ما أفتكه من مرض وما أخطره على القلوب.
واعلموا أن أنفع شيئاً لأرواحكم ولقلوبكم ولزكاة نفوسكم كتاب ربكم جلا وعلا، وأحسن الهدي هدي رسول الله  واعلموا أن شر الأمور في هذا الدين المحدثات وأن كل محدثة بدعة وأن كل بدعة ضلالة.
معاشر الموحدين المتبرئين من الشرك وأهله إخوتي في الله يقول عليه الصلاة والسلام: «إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين»فقال: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}[البقرة:172].
ثم ذكر الرجل يُطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء فلا يُستجاب له بسبب تخبطه بالحرام.
عباد الله وروي عنه عليه الصلاة السلام، أنه قال: «خير دينكم الورع»، وفي لفظٍ مِلاك أمركم الورع، وفي لفظٍ قال: اتقي المحارم تكن أعبد الناس، وفي لفظٍ في المسند وغيره، كن ورعاً تكن أعبد الناس.
عباد الله الورع، قال بعض السلف: أن يكون في قلبك زنة ذرة من ورع خيرٌ لك عند ربك من صلاة المغترين وعبادتهم، فما هو الورع: الورع هو خليطٌ من التقوى والخوف والفقه، والمراقبة إذا اشتبه عليك شيئاً تركته وإذا كان لا يعنيك ولا ينفعك تركته، هذا أشد شيء وهذا الذي يرفع العبد عند الله .
ذكروا الورع عبد الله بن مبارك عند الإمام أحمد فقال: بهذا وأمثاله رفعه الله وجعل له ذكراً طيباً إلى يوم القيامة، بالورع يُرفع العبد، والورع أيها الإخوة في الله يفهمه كثيراً من الناس في المأكل فحسب، لا والله الورع أعم، كل ما لا ينفعك ولا يعنيك وقد يضرك فتركه ورع، فالورع أولاً: في أداء الفرائض وعدم تضيعها والعجب من عبدٍ يتورع عن الشبهة والفرائض مضيعة إما بالطمأنينة أو في الخشوع أو في الوقت أو في الجماعة، أعظم الورع إقامة الفرائض.
قال عليه الصلاة السلام: «إن الله يقول ما تقرب إلى عبدٍ بشيء أحب إلي مما افترضته عليه»، وهذا الحديث بدأ به ابن أبي الدنيا كتاب الورع، وهذا من فقهه –رحمه الله- فاقرءوا هذا الكتاب العظيم ففيه ما يشفي الصدور، وكذلك كتاب الورع  للإمام أحمد برواية أبي بكر، ففيه قصصٍ عن الصالحين والصحابة في الورع.
ومن الورع: الورع عن الحرام وعما يُغضب الله هذا ورعٌ واجب، ومن الورع: الورع عن الشبهة، ومن الورع: ترك بعض الحلال دون أن تُحرمه ليكون حاجزاً بينك وبين الشبهة، والشبهة حاجزٌ بينك وبين الحرام.
قال ابن عمر-رضي الله عنهما-: إني لأحب أن أضع سترة من الحلال بيني وبين الشبهة من الحرام لا أخرمها ولا أحرمها، لا تستوفي الحلال كله من فضول المأكل والتفنن فيه، والملبس، والتفنن فيه، والمسكن والمنطق والمجالسات، والنظر فإنك إذا استوفيت ذلك لن تدعك نفسك حتى تقع في الشبهة فإن وقعت في الشبهة لن تدعك نفسك حتى تقع في الحرام.
قال عليه الصلاة والسلام: «كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإن لكل ملكٍ حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في القلب مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب».
فالورع أعظم ما يزيل قسوة القلب قاله الإمام أحمد وغيره، الورع أعظم ما يُصلح القلب سر بين العبد وربه يتورع يكف، قال جماعة من الصحابة منهم أنس: إنكم لتعملون أعمالاً هي في أعينكم أدق من الشعر كنا نعدها في عهد رسول الله  من الموبيقات، وقالت جماعة من الصحابة: لن يبلغ أحدٌ درجة المتقين ولن يُصيب عبد ٌحقيقة الإيمان، حتى يدع بينه وبين الحرام حاجزاً من الحلال فيتورع حتى لا يقع فيما يُغضب الله.
عباد الله الورع في النظر عبدٌ تقي تورع عن مقاطع الجوال مما يُغضب الله كف بصره، عبدٌ تقي تورع عن النظر في القنوات، تورع عن النظر في الأجنبيات، تورع عن النظر عن كتب أهل الرأي لأن فيها ما يُغضب الله وكل كتابٍ فيه ما يُغضب الله تورع عنه فأخلفه الله ما ينفعه من الصافي.
قال أحمد لبعض الناس: إن تركت كتب أهل الرأي لم تنظر فيها أتيناك نسمع منك كتب عبد الله بن مبارك أو نُسمعك إياها فيتورع العبد عما يُغضب ربه، وعما يشتبه عليه، وعما لا ينفعه فيخلفه الله بالنافع الصافي، وهذه عاقبة الورع.
من الورع، الورع في الشم، أوتي عمر بن عبد العزيز بغنائم مسك فأمسك بأنفه فقالوا: يا أمير المؤمنين حتى في هذه ورع، قال: وهل يُراد من المسك إلا الشم، وهذه للمسلمين.
وعمر بن الخطاب جده، أعطى امرأته تقسم غنائم من الطيب فكانت ربما كسرت العود بفمها ثم وضعت إصبعها ومسحت في خمارها، فلما رآها مسحه بالماء وبالتراب ونصحها الورع في الشم.
قال أبو موسى الأشعري: لأن يمتلئ منخراي من ريح جيفة أحب إلي من أن يمتلئ من ريح امرأة لا تحل لي.
الورع عباد الله: في البطش في مد اليد في كتابة الرسائل في الجوال رب عبدٍ تقي كتب رسالة فأدركه الورع فمسحها فكتبها الله عنده، رب عبدٍ تقي قوي أراد أن يضرب فأدركه الورع فكف يده فعرفها الله له فأصلح له قلبه.
الورع في اليد الورع في الرجل، رب عبدٍ تقي أراد أن يحمل رجله إلى مجالس فيها مالا ينفعه ولا يعنيه فكف رجله فأعقبه الله بصلاح قلبه وبصحبة صالحة، تجتمع معه ينفعهم وينفعونه، رب عبدٍ تقي أراد أن يحمل رجله إلى بعض ما لا يحل أو مالا يجمل، فتورع فنفعه الله.
عباد الله الورع في اللسان، رب عبدٍ تقي أراد أن يتكلم بطرفة فيها كذب فتذكر قوله عليه الصلاة والسلام: «من ترك الكذب وإن كان مازحاً فأمسكها، فنفعه الله في قلبه»، الورع في كل شيء.
وأعظم الورع أيضا الورع في المطعم، إنه لن يصلح قليك ولن يصلح عملك حتى تنظر فيما يدخل البطن فيما يدخل بطنك عبد الله حتى تتورع، فإن العبد يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يُلح بالدعاء يا ربي يا رب ثم يرد دعاءه على وجهه لأجل أنه ما تورع من حرام أو من شبهة.
يا عبد الله دع ما يريبك إلى مالا يريبك كما قال عليه الصلاة والسلام في حديث حسن، يا عبد الله من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه هذا الورع، أن تترك مالا يعنيك ومالا ينفعك في جوارحك كلها فإنك إن فعلت ذلك فتح الله لك أبواب ما يعنيك وما ينفعك في الآخرة.
من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه نحن في هذا المسجد مسلمون لكن إسلامنا ليس سواء بعضنا أحسن إسلاماً من بعض وأجود إسلاماً من بعض، وأصفى إسلاماً من بعض، وأحسننا إسلاماً أتركنا لمالا يعنيه، يا له من مجال عمل في هذا الحديث ومجاهدة لمن سمع الحديث وأراد به العمل ولم يرد به التزيد والتصدر والاستعراض.
يا عباد الله اتقوا الله جلا وعلا، تورعوا تفلحوا، قال الضحاك: كان الناس إذا التقوا يتعلم بعضهم من بعض الورع، وهم اليوم إذا التقوا يتعلم بعضهم من بعض الكلام والتزيد فيه هذا قاله في القرون الأولى كيف لو أدرك زماننا، وقال الضحاك: والله ما كنا نلتقي إلا يتعلم بعضنا من بعض الورع ودقائقه، الورع الخفي.
من الورع: ترك الجدال ولو كان الحق معك، قال عبد الكريم الجزري: ما خاصم ورع قط، الورع يحجزه ورعه عن الخصومة وعن الجدل وعن كثرة الكلام.
فيا عباد الله هذا بابٌ عظيم من فتح الله له فهو أزكى العباد وأعبدهم وأتقاهم، اللهم ارزقنا حقيقة الورع، اللهم اجعلنا من أورع الناس في ألسنتنا وأبصارنا وجوارحنا وبطوننا يا رب العالمين يا حي يا قيوم.
اللهم نستعيذ بك من الحرام  ومن الشبهة ومن فضول الحلال، اللهم نسألك مطعماً طيبا، اللهم لا تنبت لحومنا وجسومنا وأولادنا وذرياتنا ووالدينا إلا على الحلال الطيب با رب العلامين، اللهم مطعماً طيبة ودعوة مجابة وقلوباً سليمة، وأنفساً زكية وأخلاقاً حسن وأرواحاً طاهرة، وعلماً نافع، وعملاً صالحا، ونية صادقة وذرية طيبة، إيماناً راسخا، ويقيناً صادقا، يا حي يا قيوم يا رب العالمين.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم استغفروه.
الحمد لله على كل حال، وتعوذ بالله من حال أهل النار، وما يُقرب إليها من قولٍ وعمل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، واشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه و سلم تسليماً كثيرا.
عباد الله اتقوا الله ، وراقبوه في السر والعلن، يا عبد الله أصلح ما بين وبين الله يُصلح الله ما بينك وبين الناس، يا عبد الله أصلح سريرتك يُصلح الله علانيتك، يا عبد الله أصلح عملك، يُصلح لك ذريتك ونيتك ويرزقك الحياة الطيبة والميتة الهنية والعاقبة السعيدة.
قال الله : {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}، في الدنيا وفي البرزخ وفي العرصات وفي جنات النعيم، لنحيينه حياة طيبة، فيا عباد الله احذروا الشيطان فإنه قد تسلط عليكم بالوسواس وليس بالجبرية، {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}[الحجر:42]، فتعوذوا بالله من الوسواس الخناس قولوا: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}[الناس:1]، {مَلِكِ النَّاسِ}[الناس:2]، {إِلَهِ النَّاسِ}[الناس:3]، {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ}[الناس:4]، {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ}[الناس:5]، {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}[الناس:6].
حتى من شياطين الإنس ادحروا وسواسهم بذكر الله، وبالعلم النافع، وبتدبر القرآن وبمصاحبة الصالحين وبالاستغاثة بالله وبكثرة الصلاة والدعاء فإن الدنيا قد تزينت والمال قد فاض والدجاجلة قد كثروا والنفوس أمارة بالسوء والشيطان متسلط والأعداء كثر، ولكن يُنجيك منهم أن تعتصم بلا إله إلا الله وأن تُعطيها حقها، وأن تُكثر الاستغفار فإن الله شكورٌ حليم.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم وأسأله لي ولكم حسن العاقبة وحسن الخاتمة، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.