بسم الله الرحمن الرحيم
شرح الواسطية -تفسير آيات المعية
قال الله تعالى:{‏هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 4‏]‏‏.
‏تفسير الآية :قال الطبري –رحمه الله – في تفسيره : يقول تعالى ذكره: هو الذي أنشأ السموات السبع والأرضين، فدبرهنّ وما فيهنّ، ثم استوى على عرشه، فارتفع عليه وعلا. وقوله: { يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الأرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها } يقول تعالى ذكره مخبراً عن صفته، وأنه لا يخفى عليه خافية من خلقه .
قال ابن كثير –رحمه الله – في تفسيره : وقوله تعالى: { يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِى ٱلأَرْضِ } أي: يعلم عدد ما يدخل فيها من حب وقطر { وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } من نبات وزرع وثمار؛ كما قال تعالى:{ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظُلُمَـٰتِ ٱلأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَـٰبٍ مُّبِينٍ }[الأنعام: 59] .
وقوله تعالى: { وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ } أي: من الأمطار، والثلوج والبرد والأقدار، والأحكام مع الملائكة الكرام. وقد تقدم في سورة البقرة أنه ما ينزل من قطرة من السماء، إلا ومعها ملك يقررها في المكان الذي يأمر الله به حيث يشاء الله تعالى. وقوله تعالى: { وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } أي: من الملائكة والأعمال؛ كما جاء في الصحيح: " يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل "
وقوله تعالى: { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي: رقيب عليكم، شهيد على أعمالكم حيث كنتم، وأين كنتم، براً أو بحراً، في ليل أو نهار، في البيوت أو القفار، الجميع في علمه على السواء، وتحت بصره وسمعه، فيسمع كلامكم، ويرى مكانكم، ويعلم سركم ونجواكم .
قال الطبري –رحمه الله - : وهو على عرشه فوق سمواته السبع .
قال ابن كثير –رحمه الله - : ؛ كما قال تعالى:{ أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ }[هود: 5].وقال تعالى:{ سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ ٱلْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِٱلَّيْلِ وَسَارِبٌ بِٱلنَّهَارِ }[الرعد: 10] فلا إله غيره، ولا رب سواه، وقد ثبت في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل لما سأله عن الإحسان: " أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك ".
قال الطبري –رحمه الله - : { وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير } يقول: والله بأعمالكم التي تعملونها من حسن وسيىء، وطاعة ومعصية، ذو بصر، وهو لها محص، ليجازي المحسن منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته .
----------------------------
وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 7‏]‏‏.‏
 
بداية الآية  قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ مايكون من نجوى ...}
تفسير الآية : قال الطبري –رحمه الله - : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ألم تنظر يا محمد بعين قلبك فترى { أنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّمَوَاتِ وَما فِي الأرْضِ } من شيء، لا يخفى عليه صغير ذلك وكبيره يقول جلّ ثناؤه: فكيف يخفى على من كانت هذه صفته أعمال هؤلاء الكافرين وعصيانهم ربهم، ثم وصف جلّ ثناؤه قربه من عباده وسماعه نجواهم، وما يكتمونه الناس من أحاديثهم، فيتحدثونه سرّاً بينهم، فقال: { ما يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ } من خلقه { إلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ } يسمع سرّهم ونجواهم، لا يخفى عليه شيء من أسرارهم { وَلا خَمْسَةٍ إلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ } يقول: ولا يكون من نجوى خمسة إلا هو سادسهم كذلك { وَلا أدْنَى مِنْ ذلكَ } يقول: ولا أقلّ من ثلاثة { وَلا أكْثَرَ } من خمسة { إلاَّ هُوَ مَعَهُمْ } إذا تناجوا { أيْنَما كانُوا } يقول: في أيّ موضع ومكان كانوا.وعنى بقوله { هُو رَابِعُهُمْ } بمعنى أنه مشاهدهم بعلمه، وهو على عرشه . وساق بسنده  عن الضحاك، في قوله { ما يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ }... إلى قوله { هُوَ مَعَهُمْ } قال: "هو فوق العرش وعلمه معهم " .
وقوله: { ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ القِيامَةِ } يقول تعالى ذكره: ثم يخبر هؤلاء المتناجين وغيرهم بما عملوا من عمل مما يحبه و يسخطه يوم القيامة { إنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .يقول: إن الله بنجواهم وأسرارهم، وسرائر أعمالهم، وغير ذلك من أمورهم وأمور عباده عليم.
وقوله تعالى : {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 40‏]‏‏.‏
----------------------------
ذكر الآية كاملة : قال الله تعالى : { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي ٱلْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلْعُلْيَا وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
 
----------------------------
تفسير الآية : قال ابن كثير –رحمه الله - : يقول تعالى: { إِلاَّ تَنصُرُوهُ } أي: تنصروا رسوله، فإن الله ناصره ومؤيده، وكافيه وحافظه؛ كما تولى نصره { إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ } أي: عام الهجرة، لما هم المشركون بقتله أو حبسه أو نفيه، فخرج منهم هارباً بصحبة صديقه وصاحبه أبي بكر بن أبي قحافة، فلجأ إلى غار ثور ثلاثة أيام؛ ليرجع الطلب الذين خرجوا في آثارهم، ثم يسيروا نحو المدينة، فجعل أبو بكر رضي الله عنه يجزع أن يطلع عليهم أحد، فيخلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أذى، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يسكنه ويثبته ويقول: " يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما " كما قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا همام، أنبأنا ثابت عن أنس: أن أبا بكر حدثه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ونحن في الغار: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه، قال: فقال: " يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما " أخرجاه في الصحيحين، ولهذا قال تعالى: { فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } أي: تأييده ونصره عليه، أي: على الرسول صلى الله عليه وسلم في أشهر القولين، وقيل: على أبي بكر، وروي عن ابن عباس وغيره، قالوا: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم تزل معه سكينة، وهذا لا ينافي تجدد سكينة خاصة بتلك الحال، ولهذا قال: { وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا } أي: الملائكة، { وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِىَ ٱلْعُلْيَا } قال ابن عباس: يعني بكلمة الذين كفروا: الشرك، وكلمة الله: هي لا إله إلا الله. وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " وقوله: { وَٱللَّهُ عَزِيزٌ } أي في انتقامه وانتصاره، منيع الجناب، لا يضام من لاذ ببابه، واحتمى بالتمسك بخطابه { حَكِيمٌ } في أقواله وأفعاله.
وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 46‏]‏‏
ذكر الآية كاملة : { قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَىٰ }
تفسير الآية : قال ابن كثير –رحمه الله – في تفسيره : يقول تعالى إخباراً عن موسى وهارون عليهما السلام، أنهما قالا مستجيرين بالله تعالى شاكيين إليه: { إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يَطْغَىٰ } يعنيان: أن يبدر إليهما بعقوبة، أو يعتدي عليهما، فيعاقبهما، وهما لا يستحقان منه ذلك. قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أن يفرط: يعجل. وقال مجاهد: يبسط علينا. وقال الضحاك عن ابن عباس: أو أن يطغى: يعتدي { قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنَّنِى مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَىٰ } أي: لا تخافا منه، فإنني معكما، أسمع كلامكما وكلامه، وأرى مكانكما ومكانه، لا يخفى عليّ من أمركم شيء، واعلما أن ناصيته بيدي، فلا يتكلم ولا يتنفس ولا يبطش إلا بإذني وبعد أمري، وأنا معكما بحفظي ونصري وتأييدي.
 
‏ ‏وقوله : {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 128‏]‏‏
تفسير الآية : قال ابن كثير –رحمه الله - : وقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } أي: معهم بتأييده ونصره، ومعونته وهديه وسعيه، وهذه معية خاصة؛ كقوله:
{ إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى ٱلْمَلَـٰئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ }
[الأنفال: 12] وقوله لموسى وهارون:
{ لاَ تَخَافَآ إِنَّنِى مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَىٰ }[طه: 46] وقول النبي صلى الله عليه وسلم للصديق وهما في الغار: " لا تحزن إن الله معنا " وأما المعية العامة، فبالسمع والبصر والعلم؛ كقوله تعالى:
{ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }[الحديد: 4] وكقوله تعالى:{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَىٰ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ }[المجادلة: 7] وكما قال تعالى:{ وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْءَانٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا }[يونس: 61] الآية، ومعنى { ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ } أي: تركوا المحرمات، { وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } أي: فعلوا الطاعات، فهؤلاء الله يحفظهم ويكلؤهم، وينصرهم ويؤيدهم ويظفرهم على أعدائهم ومخالفيهم، وقال ابن أبي حاتم: حدثناأبي، حدثنا محمد بن بشار، حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا مسعر عن عون عن محمد بن حاطب: كان عثمان رضي الله عنه من الذين اتقوا والذين هم محسنون.
وقوله : ‏{وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 46‏]‏‏
ذكر الآية كاملة : {وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَٱصْبِرُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ }
تفسير الآية : قال الطبري –رحمه الله - : يقول تعالى ذكره للمؤمنين به: أطيعوا أيها المؤمنون ربكم ورسوله فيما أمركم به ونهاكم عنه، ولا تخالفوهما في شيء. { وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا } يقول: ولا تختلفوا فتفرّقوا وتختلف قلوبكم فتفشلوا، يقول: فتضعفوا وتجبنوا، { وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } وهذا مثل، يقال للرجل إذا كان مقبلاً عليه ما يحبه ويُسَرّ به: الريح مقبلة عليه، يعني بذلك ما يحبه... وإنما يراد به في هذا الموضع: وتذهب قوّتكم وبأسكم فتضعفوا، ويدخلكم الوهن والخلل.
{ وَاصْبِرُوا } يقول: اصبروا مع نبيّ الله صلى الله عليه وسلم عند لقاء عدوّكم، ولا تنهزموا عنه وتتركوه. { إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } يقول: اصبروا فإني معكم.
 
وقوله : {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 249‏]‏‏.‏
ذكر الآية كاملة : { فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِٱلْجُنُودِ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّيۤ إِلاَّ مَنِ ٱغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا ٱلْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ ٱللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ }
تفسير الآية : قال البغوي –رحمه الله - : فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِٱلْجُنُودِ } أي خرج بهم، وأصل الفصل: القطع، يعني قطع مستقره شاخصاً إلى غيره فخرج طالوت من بيت المقدس بالجنود، وهم يومئذ سبعون ألف مقاتل، وقيل: ثمانون ألفاً لم يتخلف عنه إلا كبير لهرمه أو مريض لمرضه أو معذور لعذره...وكان في حر شديد فشكوا قلة الماء بينهم وبين عدوهم فقالوا: إن المياه قليلة لا تحملنا فادع اللَّه أن يجري لنا نهراً.
قَالَ } طالوت { إِنَّ ٱللَّهَ مُبْتَلِيكُم } مختبركم ليرى طاعتكم - وهو أعلم - { بِنَهَرٍ } قال ابن عباس والسدي: هو نهر فلسطين، وقال قتادة: نهر بين الأردن وفلسطين عذب { فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي } أي ليس من أهل ديني وطاعتي { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ } لم يشربه
قال الطبري –رحمه الله - : ومن لـم يذق ماء ذلك النهر فهو منـي، يقول: هو من أهل ولايتـي وطاعتـي والـمؤمنـين بـالله وبلقائه. ثم استثنى من قوله: { ومَنْ لَـمْ يَطْعَمْهُ } الـمغترفـين بأيديهم غرفة، فقال: ومن لـم يطعم ماء ذلك النهر إلا غرفة يغترفها بـيده فإنه منـي. يقول الله تعالـى ذكره: { فَشَربُوا مِنْهُ إلاّ قَلِـيلاً مِنْهُمْ }. وكان فـيـما يزعمون من تتابع منهم فـي الشرب الذي نهي عنه لـم يروه، ومن لـم يطعمه إلا كما أمر غرفة بـيده أجزأه وكفـاه.
{فَلَـمَّا جاوَزَهُ هُوَ } فلـما جاوز النهر طالوت. والهاء فـي «جاوزه» عائدة علـى النهر، وهو كناية اسم طالوت. وقوله: { وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ } يعنـي: وجاوز النهر معه الذين آمنوا. قالُوا لا طاقَةَ لَنا { الـيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ }.اهـ. قال البغوي –رحمه الله في تفسيره : قال ابن عباس رضي الله عنهما والسدي: فانحرفوا ولم يجاوزوا .
وقال ابن كثير –رحمه الله - : وقد روى ابن جرير من طريق إسرائيل وسفيان الثوري ومسعر بن كدام عن أبي إسحاق السبيعي عن البراء بن عازب، قال: كنا نتحدث أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين كانوا يوم بدر ثلاثمائة وبضعة عشر على عدة أصحاب طالوت الذين جازوا معه النهر، وما جازه معه إلا مؤمن، ورواه البخاري عن عبد الله بن رجاء، عن إسرائيل بن يونس، عن جَدِّه أبي إسحاق، عن البراء بنحوه، ولهذا قال تعالى: { فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا ٱلْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ } أي: استقلوا أنفسهم عن لقاء عدوهم لكثرتهم، فشجعهم علماؤهم العالمون بأن وعد الله حق، فإن النصر من عند الله ليس عن كثرة عدد ولا عدد. ولهذا قالوا: { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ }.
وقوله : {..قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ ٱللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ }
قال البغوي –رحمه الله - : {قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ } يستيقنون { أَنَّهُم مُلاَقُواْ ٱللَّهِ } وهم الذين ثبتوا مع طالوت { كَمِ مِّن فِئَةٍ } جماعة وهو جمع لا واحد له من لفظه وجمعه فئات وفئون في الرفع وفئين في الخفض والنصب { قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ ٱللَّهِ } بقضائه وإرادته { وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ } بالنصر والمعونة. اهـ