قيادة العولمة
أ. د. عبد الكريم بكار
هل يعقل أن تكون هذه الحركة الهائلة نحو تعميم الأفكار والنظم والأشياء، وهذه الحركة بتجنيس أذواق الأمم وتوحيد أنماط حياتها في الإنتاج والاستهلاك والنظر إلى الذات والآخر.
هل يعقل أن يجري كل ذلك على نحو عفوي، وبدافع من الحرص على جني المكاسب وتوسيع العمل التجاري؟ أو أن المسألة عبارة عن مؤامرة كبرى تديرها الدول الغنية - ولا سيما أمريكا - ضد الشعوب الفقيرة والضعيفة؟
هناك اجتهادات كثيرة في الإجابة على هذه التساؤلات؛ وسنحاول هنا تكوين رؤية موضوعية متوازنة حيال هذه المسألة الحيوية في قضية العولمة.
اعتقد ابتداءً أن تيار العولمة الذي عمّ كل شبر في الأرض - على درجات متفاوتة - هو بمثابة نهر عظيم له ملايين الينابيع الصغيرة والمتفجرة في أنحاء عديدة من الأرض، ومن غير الممكن لأي دولة مهما فعلت أن تسد تلك الينابيع، ولا أن تغير مجرى ذلك النهر، وأنشطة العولمة هي أكبر بكثير من أن تتحكم فيها دولة، بل إنه يمكن القول: إن ما تفعله شركة كبرى من نشر للعولمة قد تعجز عنه دول عديدة، لا يعني هذا - بالطبع - أن مساهمة الدول والشركات والجهات العلمية والتقنية متساوية في حجم المشاركة، كما لا يعني أن لا تجري عمليات تخطيط سرية لتوجيه العولمة، أو اتخاذها أداة ضغط في بعض الأحيان، كما لا يعني أن التوازن العالمي في العديد من المجالات يتم دون أيد خفية تسعى فيه، لكن مع هذا وذاك أرجو أن يسمح لي القارئ الكريم بتوضيح ثلاث نقاط في غاية الأهمية في هذا الشأن:
الأولى: هي أن قيادة العولمة تتم على نحو جوهري من قبل الغرب، ومن يتحرك في فلكه مثل اليابان وبعض دول جنوب شرق آسيا، وأعتقد أن هذا ليس موضع جدل كبير؛ إذ أن الذي نقل العولمة إلى بؤرة الاهتمام العالمي ليس أفكاراً موجودة في بطون الكتب، أو شعارات يهتف بها بعض الناس هنا وهناك، وإنما هو تجليات وتجسيدات للتقدم العلمي والتقني والتنظيمي الذي أحرزته على نحو جوهري الدول الصناعية الكبرى، كما أنه تعبيرات عن القوى الاقتصادية والمالية التي تملكها بعض الدول؛ وانطلاقاً من هذا فإن من الواضح جداً أن براءات الاختراع والتجديدات التقنية، بالإضافة إلى الثروات الهائلة ورؤوس الأموال الضخمة ليس متوطنة في العالم النامي أو العالم الإسلامي، وإنما في أمريكا واليابان وأوروبا وكندا، وإذا استعرضنا أوضاع الـ (40) ألف شركة المتعددة الجنسية وجدنا أن أكثر من 90% منها يتوطن في الدول التي ذكرناها، وهذه الشركات هي التي تخطط للعولمة، وهي التي تقوم بتنفيذ ما تخطط له، ومن المؤسف أنه ليس للدول الإسلامية بين هذا العدد الضخم من الشركات سوى النزر اليسير، مع أن المسلمين يقتربون من أن يكونوا ربع سكان الأرض!
وهكذا فمن الناحية النظرية سيكون في إمكان كل الأمم والشعوب أن تسهم في حركة العولمة والتأثير في مساراتها، أما على المستوى العلمي فإن الذين يفعلون ذلك هم أولئك الذين يعفون ويصنعون ويملكون.
الثانية: هي أن كثيراً من الباحثين يرون أن ما يسمى بـ" العولمة " ينبغي أن يسمى " أمركة "، حيث أن الذي يسيطر على قرارات المنظمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الدولية هي الولايات المتحدة الأمريكية. فصوتها هو الأقوى، والثقافة الشعبية الأمريكية هي الأقوى والأسرع انتشاراً في العالم..وهذا كله يعطي المسوغ لهذا الرأي، لكن الموضوع يحتاج إلى نظرة أكثر عمقاً وأكثر اتزاناً؛ فنحن نعتقد أن العولمة ظاهرة مستقلة، لها آلياتها الخاصة وانحطاط أمريكا واليابان - مثلاً، أو تقلص نفوذها العالمي لن يلغي العولمة، وإنما قد يغير في بعض ملامحها، إن المركز الأساس لأنشطة العولمة هو الاقتصاد.
وإن للولايات المتحدة شركاء أقوياء في المجال الاقتصادي فالناتج القومي لأوروبا الغربية أكبر من الناتج القومي للولايات المتحدة، كما أن اليابان تتمتع بمركز اقتصادي متقدم جداً، واقتصادها مع اقتصادات جنوب شرق آسيا أضخم من الاقتصاد الأمريكي، والصين " العملاق القادم " تحقق نمواً اقتصاديا عاليا، ونفوذها في حركة العولمة يزداد يوماً بعد يوم، لكان هذا كله لا ينفي أن الولايات المتحدة هي أقوى مساهم في قيادة العولمة، ومهما ساءت أحوالها فربما ظلت تحتفظ بموقع مهم في الأنشطة الدولية إلى وقت بعيد إذا خسرت الموقع الأهم.ويكفي أن نعلم لاكتشاف قوة أمريكا في أنشطة العولمة أن ناتجها القومي قد بلغ عام 1997 م نحو (7100) مليار دولار، على حين بلغ ناتج اليابان نحواً من (4964) وناتج فرنسا (1451) وناتج مصر (46) مليار دولار. وأمريكا بلد الخيرات والثروات، فسكانها الذين يناهزون 280 مليون نسمة يأكلون ويصدرون من وراء جهد 3% فقط منهم يشتغلون في الزراعة، ولديها شركات عملاقة يزيد حجم مبيعات بعضها على (130) مليار دولار في السنة.