هذه صورة للعولمة
د. محمد بن عبد الرحمن أبو سيف الجهني
الحمد لله وحده لا شريك له، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
هذه صورة التقطها تصوري من مقروءاته ومسموعاته ومرئياته أعرضها للناظرين:
يراد للعولمة أن تكون ملّة عامة تجتمع عليها جميع شعوب الأرض، تعطيها ولاءها الملِّي العام، تجتمع عليه وتتعايش به.
وهذه مع كونها رغبة تبدو مغرقة في الخيال لاستحالة نزع ولاء مختلف الناس لمعتقداتهم، وجمعهم على ولاء لملّة واحدة، إذ قال خالقهم: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ" [هود: 118]. إلا أن ذلك استُدْرك بإظهار أخذ الملل المتباينة التي تعتنقها الشعوب بعين الاعتبار، ولكن مع إحالتها إلى ثقافات تظهر خصوصياتها من غير أن تمنع اندراجها في تعايش منضبط بضوابط العولمة، ويتأطر بأطرها ويستبقي الولاء العام لها.
واستُدْرك أيضًا بحركة عملٍ مغرقة في الجديّة والإتقان، تقوم على دراسات تفصيلية تجمع دقائق المعلومات وتستقرئ دلالالتها، وتستجلي أغوارها وتستظهر معالمها وتحلل أبعادها، وتؤلف بين متوافقها وتميز بين متباينها وتستنبط طرق التعامل معها وتستنبئ مختلف المتوقعات، ثم تضع الخطط المتعددة المناسبة لكل حالٍ متوقعةٍ، ثم تتتبع النتائج بدراسات تقريرية توضع عليها خطط عمل تتلافى الأخطاء، وتستدرك الإخفاقات وتستديم النجاحات.
وقد أنشئت لحركة العمل هذه مؤسسات، واستُغلت مؤسسات.
فمما أُنشئ: المؤسسات التبشيرية التي من أهم أعمالها المسح وجمع المعلومات وإعداد البيانات للعمل بعيد المدى، وإشاعة معتقدات التبشير للعمل قريب المدى.
والمؤسسات الإعلامية التي من أهم أعمالها تلقين المبادئ، وإشاعة الأفكار وتهيئة الساحة.
ومما استُغل: هيئة الأمم المتحدة؛ فاستخدمت مؤسساتها في عقد التعهدات والمواثيق وجمع التواقيع عليها ومتابعة الالتزام بها، وفي إقامة المؤتمرات للتمهيد لإقرار التحولات الثقافية والتشريعية.
والمراكز الاستخباراتية؛ فاستخدمت في عمليات المسح، وجمع التقارير وإجراء الدراسات واقتراح الخطط.
وفي الطريق إلى العولمة اتخذت وسائل وركزت دعائم.
أما الوسائل: فاستهدفت أمرين:
الأول: إنشاء روح قبول العولمة والإقبال عليها، وذلك بإشاعة قدر من العلاقات العامة، يجمع مختلف أهل الملل على روح إخاء ومودة متحررة من ضوابط مللهم.
واتُّخذت (الرياضة) وسيلة فاعلة لتحقيق هذا الهدف.
فالرياضة - بدوراتها المختلفة وأولمبياتها المتنقلة بين دول العالم، وما يرافقها من زخم إعلامي فاعل - أحدثت تعايشًا بين شعوب العالم متحررًا من التباين الملي والثقافي، بإشاعة الروح والأخلاق الرياضية التي تنتمي في ولائها لقوانين الفيفا تجتمع عليها وتصدر عنها.
فالمسلم والكافر المسيحي والكافر البوذي وغيرهم يجتمعون في حميمية رياضية، يتنافسون مجتهدين للوصول إلى الكؤوس وتحصيل الميداليات، لا تلحظ فرقًا يميِّز أحدهم عن الآخر أو خصوصية يبرزونها إلا ألوان الأعلام على أجسادهم، ولا شريعة يدينون لها إلا أحكام الفيفا.
وأحكام الفيفا هي الملة الرياضية التي تأخذ بتلابيب الحركة الرياضية في العالم، حتى إنه لا عبرة لأي حركة رياضية في أي مدينة في أي دولة من العالم ما لم تكن مسجلة في كشوفات الفيفا وتحمل تصريحها.
وفي الرياضة يتبلور نموذج حي للعولمة في هيئتها النهائية.
الثاني: نزع روح رفض العولمة والإعراض عنها، وذلك بالتركيز على الفرد، وربطه بشهواته، وتدريبه على التمرد على الروابط الثقافية التي ينتمي إليها وتربطه بأهل ملته خاصة، وإغرائه بروابط تدفعه إلى الانتماء إلى كل ما يشبع شهواته من أي ملَّة كان.
واتُّخذت (الإباحية) وسيلةً فاعلة لتحقيق هذا الهدف.
فأغرق العالم بإعلام إباحي ينشر ثقافة الحرية العاطفية والجنسية المتحررة من قيود الدين والتقليد والعادة إلا قيدًا واحدًا هو قيد التراضي بين طرفي العملية العاطفية والجنسية؛ فلا يُقبل التحرش والاغتصاب، وهو القيد الذي تحل طاقاته الإثارات الصارخة التي تجري مجرى الدم في الطرفين، التي يروجها الإعلام ويلقن الطرفين معها ثقافة الحرية الفردية في ملة العولمة، ويرفد ذلك توفير وسائل ممارسة تلك القاذورات:
- من وسائل اتصال عديدة كالمحادثات في الإنترنت.
- وأماكن ممارسة الرذائل، كالخمارات ودور الدعارة والملاهي الليلية.
- وسن القوانين التي تحتضن هذه الممارسات، وتحرسها بسلطة من سلطان العولمة، كقانون الإجهاض.
وأما الدعائم فاستهدفت أمورًا:
الأول: ربط العالم أجمع بمختلف ملله بمصالح مشتركة لا تقوم حياة الشعوب إلا بها، وتديرها جهة واحدة يبتدئ منها وينتهي إليها سائر شأن هذه المصالح.
واتُّخذ (الاقتصاد) دعامةً ليس ثمة أثبت منها لتحقيق هذا الهدف، إذ هو عصب الحياة.
وهاهي دول العالم تلهث لهاثًا شاقًا للانضمام إلى (منظمة التجارة العالمية) التي تجمع أعضاءها على الولاء لملةٍ اقتصادية عولمية تلغي كثيرًا من خصائص الملل التي ينتمون إليها، وتلحق ما تتبناه بهوية العولمة، فلا تبقى له خصوصية يتميز بها.