محمد بن عيسى الكنعان
الحرية.. الإصلاح.. التنوير.. مفردات عصرية لا يخلو منها خطاب الليبراليين الموجه لجماهير الأمة في وقتنا الراهن، لاستمالتها نحو مشروعهم النهضوي الذي يبشرون به لخلاص الأمة من مأزقها الحضاري، هذا الخطاب يدفعنا إلى التوجس، ومحاولة كشف حقيقة تلك المفردات من زيفها!
فإذا كانت مفردة (الحرية) وسيلة إغراء يستخدمها الليبراليون لجذب تلك الجماهير، كون الحرية حلم كل إنسان ومطلب كل حر، ويدندنون على (الإصلاح) الذي هو جسر معلق بين الجماهير والأنظمة، محاولين عبوره من دائرة الظل إلى وضوح الرؤية، فإن مصطلح (التنوير) لدى الليبراليين له شأن آخر! فهو أقرب لطريقة (التضليل الفكري) لجماهير الأمة التي تدغدغها مثل هذه المصطلحات البراقة، سواء لجهلها بها من حيث بعدها التاريخي أو الفكري، أو لإيقاع لفظها المرتبط بالنور والخروج من الظلمة، أو لسحر بريقها الحضاري، خاصة بعد انحسار المد العلماني في المنطقة العربية.
الأمر الذي يدعو إلى محاولة كشف حقيقة (التنوير) ببعديه (التاريخي والفكري)، حتى نستبين الرشد قبل ضحى التيه، الذي يراد لنا أن ندخله من أنفاق الليبرالية، وذلك على مستويين، مستوى (المفهوم الإسلامي)، ومستوى (المفهوم الغربي) إزاء (التنوير)، ومن ثم المقارنة بين الحالتين الإسلامية والغربية.
ف(التنوير) مصطلح غربي من حيث النشأة واللفظ والمضامين، وهو: حركة فلسفية ظهرت في القرن الثامن عشر الميلادي، تقوم على مبدأ التحرر من السلطة الكنسية والتقاليد الدينية، من خلال الاعتداد بالعقل والاستقلال بالرأي، مع الإيمان بالأخلاق، والتنوير يعكس فترة تاريخية حرجة في مسيرة الغرب الحضارية، تعود جذورها إلى فرنسيس بيكون (1561 - 1626م)، الذي كان له السبق في رفض تدخل الدين بالمعرفة، ومن ثم استبعاده تماماً، غير أن (التنوير) ارتبط بالقرن الثامن عشر الميلادي الذي شهد صعود الفكر التنويري، حتى أن أبرز المفكرين الفلاسفة صاروا يمثلون التنوير، فعرف العالم عصر (التنوير) أو الأنوار، بمعرفتهم لرموز غربية أمثال فولتير، وروسو، وجوته، وكانت.. وغيرهم!
التنوير أو الفكر التنويري جاء ردة فعل على أفعال الكنيسة الاستبدادية وسيطرتها المطلقة (الدينية والفكرية) على حياة الناس، وتقاليدها التي كبلت حركة الفكر الإنساني وجمدت مناشط الحياة اليومية وألغت المعارف وحاربت العلوم، وذلك أن قام التنويريون برفض هيمنة الفكر الكنسي وتحرير العقل وإطلاق كل ملكاته الإبداعية واعتبار الدين علاقة روحية محدودة الإطار بين العبد وربه في دار عبادته، حتى وصل الأمر إلى رفع شعار: (لا سلطان على العقل إلا للعقل).
وبفعل المد التنويري المتصاعد تهاوت أبراج الكنيسة المنيعة، وراحت أوروبا تضع خطواتها على الدرب الحضاري بعد عصور الظلمة، فانتشر الفكر التنويري الذي راح يمجد العقل وحده، بل وتأليهه، فخرج الكفر والنظريات الالحادية وظهرت النزعة المادية، وتشكلت التيارات الفكرية وازدهر العلم ودبت الحركة الصناعية في أوصال الأمة الغربية، بهذا يكون التنوير الغربي (الوضعي) قد أقام - خلال مسيرته التاريخية - قطيعة مع الموروث الديني المسيحي، داعياً إلى رفضه، وعدم استلهام تعاليمه أو الانطلاق من أسسه الفكرية، جاعلاً العقل هو الإله والمرجعية الوحيدة.
في المقابل يبدو (التنوير) حسب المفهوم الإسلامي مغايراً تماماً، فهو الانطلاق من تعاليم (الإسلام) التي جاءت بها نصوص الوحي، سواء القرآن الكريم في معاني جليلة من أبرزها (النور)، أو أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- الموصوف بالسراج المنير، لذلك فالمسلم الحق يؤمن بالتنوير الإسلامي فقط، الذي يعني النظر بعقل مؤمن في المنابع الجوهرية للإسلام وتعاليمه النقية، وأيضاً لفقه أحكامه الربانية، واستلهام إجاباتها على كل ما يستجد في واقعه، لذلك يمكن القول أن تنوير المسلم على درب الحضارة هو الجمع بين (فقهي النص والواقع)، أي الجمع بين العقل البشري (النظر) والوحي الرباني (المصدر).
أخلص إلى أنه يحق لنا أن نشكك في كل دعوى (للتنوير) ما لم تحدد مقاصدها بوضوح وترسم خطوطها بدقة بين خيارين في تقرير (التنوير)، تنوير حسب المفهوم الغربي الذي يعلن القطيعة مع الدين وحصره في دور العبادة ،وجعل (العقل) هو سيد الواقع وإله الحكم، أم تنوير مطلوب حسب المفهوم الإسلامي الذي يجعل الدين الركيزة الأساسية والمنطلق نحو الواقع بكل تعقيداته ومستجداته، وأن (الوحي) هو المرجعية، لذلك فالدعوى التي لا تحدد مقصدها في حقيقتها هي (تزوير).
المصدر : جريدة الجزيرة