ومحمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -.
هؤلاء أنصار الدين وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأنصار الأولين وفي أنصار الدين الحقيقيين أنصار السنة والحديث إلى يوم القيامة قال: ((آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار، لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق معلوم النفاق)).
هؤلاء الثلاثة رحم الله أمة محمد بهم تجمعهم أمور عدة منها محبة الآثار محبة السنن، محبة مذاهب الصالحين والقرون الفاضلة الثلاثة وإحيائها كلهم تواطئوا على ذلك، كلهم دلوا الناس على مذاهب الصحابة والتابعين وعلى التمسك بالآثار وسخروا معارفهم وعلومهم ومواهبهم في خدمة مذاهب الصحابة والتابعين وأتباع التابعين وتقريبها للناس وتسهيلها على الناس وبث الاهتمام بالحديث والأثر والأمر الأول كلهم كانوا كذلك - رحمهم الله -.
وأيضا كلهم أعطاهم الله حسن النزع من القرآن ومن السنة، فتجد أحدهم يأتي بالمسألة العظيمة الباهرة ثم ينزع من القرآن ومن السنة أحسن منزع ما يؤيدها ويبينها وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، والعلماء إنما يحبون العالم الذي يحسن النزع ويدلهم على مواضع الحجة من القرآن والسنة، وسبب ذلك أنهم اكتفوا بهذين الأمرين وسخروا كل جهودهم في التدبر والتفكر فيها فأخرجوا هذه العلوم النافعة.
وأيضا فهؤلاء الثلاثة جابهوا أهل الباطل وسموهم بأسمائهم وحيزوا الجماعات الضالة والأحزاب الفاسدة حيزوها عن المسلمين وسموها بأسمائها وسموا المبتدعة بأسمائهم وصبروا على الأذى، أوذوا وطردوا وعذبوا وحول قتلهم ومنهم من مات في السجن ومنهم من حصل له عدة محاولات للاغتيال والقتل ولكنهم دلهم الله أن هذا هو طريق الرسل.
إخوتي في الله: كل الرسل تبدأ طريق الإصلاح بأن يتبين طريق الرشد من طريق الغي واضح لا لبس فيه ثم بعد ذلك من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر أمره إلى الله، إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها، ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة/256]، إن الذي يحاول أن يمسك العصى مع المنتصف كما يقال ويحاول أن يرضي جميع الأطراف وأن يجمع جميع الناس ولا يسمي الأشياء بأسمائها ولا يحذر من البدع بأسمائها ومن الجماعات الضالة بأسمائها ومن المبتدعة بأسمائهم لا يكون إمام قط، لا يكون إمام قط بهذا جرت سنة الله، إن هذا يريد أن يجمع بين الدنيا والآخرة بين رضا الله ورضا الناس، لا بد أن تمقت من ترك طريق الحق أشد المقت ثم تعود إلى نفسك فتكون أشد لها مقتا ولا بد أن يستوي عندك مدح الناس وذمهم ورضاهم وسخطهم وإقبالهم وإدبارهم إذا كان الذي في السماء راضي جل جلاله.
وهكذا كان هؤلاء الثلاثة، منهم من مكن ومنهم من استضعف ثم مكن ومنهم من مات وهو سجين مستضعف وأجره على الله، ولكن تأثيرهم في دين المسلمين وفي تجديد دين المسلمين كان عميقا وعميقا وعاش أمم خرجوا من أصلاب آبائهم على تراث هؤلاء وعلى كتب هؤلاء وما دلوا عليه المسلمين، فنسأل الله أن يعلي منازلهم في عليين وأن يتجاوز عنهم وأن يلحقنا بهم ويرزقنا محبتهم ومحبة أنصار الدين في كل حين.
تتميز كتبهم بالوضوح بالآثار بالقوة بالصراحة بالعمق، طوبى لطالب علم تفرغ لهؤلاء الثلاثة ودرس ما عندهم من الآثار، ودرس ما عندهم من الفقه مع عنايته بالآثار والوحي.
ومن ذلك شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -، فإن الله من به على العرب في جزيرتهم هذه وخارج جزيرتهم وعلى أهل الإسلام كلهم بأن جدد لهم الملة المحمدية، وله رسائل نافعة.
ولعلي أذكر لحظات من رسالة واحدة من الرسائل، له رسائل كثيرة كلها نافعة وصريحة ومباشرة يضع إصبعه على الجرح وينزع أحسن النزع ويدل على مواضع التناقض عند أهل الأهواء وأهل الشرك ويبين دين محمد - صلى الله عليه وسلم - حتى رسائله الشخصية له رسالة [اسمها ستة موضع من السيرة] من تدبرها وفهمها عرف دين محمد - صلى الله عليه وسلم - وعرف ما عليه أكثر الناس اليوم، فإن الناس يظنون أن من قال لا إله إلا الله ولو لم يأتي بشروطها ولو كان يناقضها ولو كان ينافيها ويدعو غير الله ويعبد غير الله أنها تنفعه، سواء قالها عند قتله أو قالها في حياته إنه إن هذه الكلمة هي المنجية، لكن من قالها خالصا من قلبه كما قال - صلى الله عليه وسلم - ومن أتى بشروطها لا إله إلا الله نفي وإثبات والنفي مقدم على الإثبات، فلابد أن تنفي فتقول لا إله في هذه الدنيا يستحق العبادة والذبح والطواف والصلاة والخوف والحب والرجاء، لا إله لا معبود لا محبوب لا صمد إلا الله وحده لا شريك له، لا بد أن تكفر بالطاغوت وتؤمن بالله حتى تستمسك بالعروة الوثقى، ومن كان مقيما على شركه وهو يقول لا إله إلا الله لا تنفعه ولو كان يصلي ويصوم ويعتكف ويحج ويعتمر، يا لها من مسألة عظيمة.
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: فمن ذلك أن كفار قريش كانوا يصلون في الجاهلية ويعتكفون كما قال عمر نذرت أن أعتكف ليلة بالحرم بالمسجد الحرام في الجاهلية ويحجون ويعتمرون ويطعمون المسكين ويتصدقون ولا ينفعهم ذلك لأنهم ما أتوا بالتوحيد، فمن استشهد اليوم على أناس مقيمين على شرك أنهم يعملون الخير فقل هذا كله إنما يعجل لهم جزاؤهم في الدنيا ما فعلوه من خير وأما في الآخرة فلا بد من التوحيد، من أراد أن تنفعه أعماله لا بد من التوحيد الخالص، لا بد أن يكفر بالطاغوت وبأحزاب الطاغوت وبأمور الجاهلية ويوحد الله - عز وجل -، رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرهم بالصلاة إلا بعد عشر سنين من بعثته، بعد ليلة الإسراء وبعد الحبشة وبعد الشعب وبعد موت أبي طالب نزل أمر الصلاة عليهم، مكث عشر سنين إنما يأمرهم بالتوحيد ومع ذلك عادوه أشد المعاداة وحاربوه لأجل هذا التوحيد، قال الشيخ: فإذا عرفت هذه المسألة فيا بشراك فتح لك.
الأمر الثاني: وهو أعظم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أول ما جاءهم بالتوحيد والتحذير من الشرك بأمر عام استحسنوا ذلك ولم يكرهوه، أمر عام لا يسمي الأشياء بأسمائها، بل حدثوا أنفسهم بالدخول فيه، فلما قال إن الطاغوت الذي أقصده هي هذه الأصنام التي تعبدونها حول الكعبة وإن أباكم على ضلال وعلماؤكم على ضلال وقد جئتكم بالتوحيد وكنتم على شرك قاموا له عند ذلك وحاربوه وكشروا له عن أنياب العداوة وشمروا عن ساق الحرب وطردوا أصحابه كل مطرد، حتى بلغوا إلى الحبشة ومنهم من قتل ومنهم من سجن، وفي هذا دلالة لكل مصلح، أن الناس يقبلون الأمر العام والكلام العام حتى تسمي الأمور بأسمائها، حتى تقول ما هو الطاغوت ما هي البدعة ما هي الأحزاب الضالة من هم رؤوس البدع؟ هل هم كانوا فبانوا: أم أن الشيطان له أولياء في كل جيل والله له أولياء في كل جيل؟ وابتلى الله الناس بعضهم ببعض، من لم يسمي الأمور بأسمائها فإنه لا يعادى ولكنه لم يسلك طريق المرسلين، قالوا له عاب آلهتنا وسفه أحلامنا وسب آباءنا، هكذا فهموا.
قال الشيخ: ولو كان لأصحابه رخصة وهم يعذبون ويضطهدون ويطردون ويهاجرون لم كان لهم رخصة في عدم التصريح لكان الله أرحم بهم من ذلك ولكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرحم بهم من ذلك ولكنه لم يجد لهم رخصة، كيف وقد أنزل الله: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ ﴾....[العنكبوت/10].
فهذا فيمن أقرهم بلسانه فكيف فيما دون ذلك؟ فافهم هذه المسألة واعرف أن أهل الشر لا يعادونك حلى تصرح.
الموضع الثالث: أبو طالب هذا الذي مات مشركا، هذا الرجل لم يقتصر على الأفعال القاصرة والعبادات القاصرة بل إنه ناصر النبي - صلى الله عليه وسلم - وبذل ماله وعمره وجهده وصبر في الشعب ثلاث سنين على العذاب وعلى المحاصرة من اجل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان يقر أن دين النبي هو الحق وكان يحث على الدخول فيه، ومع ذلك هو خالد مخلد في النار، أبد الآبدين كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في البخاري، لما؟ لأنه لم يكفر بالطاغوت ولم يؤمن بالله، لم يكفر بالطاغوت، ما يكون العبد مؤمنا ما يكون سنيا ما يكون مسلما حتى يكفر بالطواغيت ويؤمن بالله، حتى يوالي ويعادي حتى يحب ويبغض، حتى تكون الأمور عنده أسود وأبيض، خير وشر حق وباطل هكذا تكون، ومع ذلك نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يستغفر له، مع ما بذل لكن من عدل الله أنه خفف عنه من عذابه ولم يسلم من الخلود في النار، نعوذ بالله من الخذلان، انظروا في هذا الفقه العظيم، انظروا في هذا الفقه العظيم وفي حسن النزع من السيرة ومن السنة لما يفتح القلوب لطريق الحق.
اللهم فقهنا يا رب العالمين، اللهم نور بصائرنا، اللهم دلنا على ما كان عليه محمد وأصحابه وإخوانه من الأنبياء ودلنا على طريق الإصلاح الصحيح، اللهم إنا تعوذ بك أن نجتهد في الدعوة بأهوائنا وآرائنا وفي العلم وفي الجهاد وفي الحسبة بالرأي والهوى يا رب العالمين، نسألك أن نتبع سبيلهم بإحسان، يا حي يا قيوم يا رب العالمين. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا.
قال - رحمه الله -: ومن المواضع في السيرة التي لا يتدبرها أكثر من قرأها قصة الهجرة وفيها من الفوائد والعبر ما لا يحصى ولكنا نقف عند مسألة واحدة، قوم أسلموا ولكنهم لم يهاجروا، غلبت عليهم محبة الأهل والوطن والولد على محبة الدين فبقوا، إخوانهم هاجروا وطردوا وعذبوا وهم بقوا ولكنهم ما زينوا دين المشركين وما دعوا للشرك وهم بقوا على الإسلام بل بعضهم جامل المشركين في بدر وخرج معهم وقتل فقال الصحابة: قتلنا إخواننا لم يبلغهم أنهم زينوا دين المشركين ولم يبلغهم أنهم دعوا للشرك فسموهم إخواننا فأنزل الله فيمن بقي مع المشركين: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ ﴾ لم يقولوا كيف إسلامكم كيف تصديقكم ﴿ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ﴾ [النساء/99].
يا له من موضع، يا له من موضع، هؤلاء الذين قال الله مأواهم جهنم لأنهم ما والوا وعادوا ما هجروا الناس في ذات الله ما فضلوا محبة الدين على محبة الأهل والعشيرة والوطن والسمعة والعرض والمال والولد وكل شيء.
والموضع الأخير: قال - رحمه الله -: موضع الردة فإن أهل الردة كانوا يقولون لا إله إلا الله، وبعضهم كان يقول محمد رسول الله ولكنه يزيد ومسيلمة رسول الله أو طليحة رسول الله أو العنسي رسول الله واليهود يقولون لا إله إلا الله ولم تنفعهم.
يا عباد الله: إن لا إله إلا الله لا تنفع إلا من كفر بالطاغوت وآمن بالله، من أعطاها حقها، كلمة لو وضعت السماوات السبع وعامرهن إلا الله والأراضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله، لكن من أعطاها حقها من الفقه والفهم ومعرفة ما مرادها، من أعطاها حقها من النفي والإثبات، كفر بالطاغوت وآمن بالله، والى في الله وعادى في الله وأحب فيه وأبغض فيه، فيا عباد الله تدبروا وتفقهوا واحمدوا الله على العافية واسألوا الله الإسلام ولا تحكموا لأحد بإسلام حتى يكفر بالطاغوت ويتبرأ من الطاغوت ويؤمن بالله، ويوحده هذا هو المسلم.