أورام البناء الثقافي
فحين تنبض الثقافة بهمّ الأمة، وحين تمدّ الأمة الثقافة بمقومات صمودها وعوامل بقائها وأصالة منبتها ونبل مخبرها، وإذا توثَّقت العلاقة بين الطرفين؛ كان ذلك مدعاة لسيادتهما جميعاً، وإذا تهاوت تلك العلاقة فلا بقاء لواحدة دون الأخرى. وحينما يكون للأمة رسالة يحملها مثقفوها عبر أقنية الاتصال لإبلاغها دعوة للخير للعالم أجمع، يعيشون آنذاك حالة من الهمّ والقلق لأجلها. وإذا انتفى ذلك وفضل المثقفون سلك طريق غير معبَّد وأسلوب غير ممهَّد وطريقة ومنهج مرسوم بالعبثية والمصلحة الفردية، عند ذاك يظهر الخلل بين الجذر والساق، بين الأمة والثقافة، فلا الساق بقادر على السمو والعلو، ولا الجذر يستطيع وهبه مقومات شموخه، وتغدو العلاقة حالة من العقوق. وفي هذه الوريقات أضع مبضع الجراح على ورم البناء الثقافي، مستحثة المثقفين والمثقفات لمهمة استئصاله قبل أن يتشعَّب فيهلك الجسم الواهن.
الورم الأول: الفجوة الواسعة بين المثقف المحلي ومطالب ورغبات وهموم وتطور المجتمع، والمعنى المقصود: اتساع المسافة الزمنية بين المراحل التاريخية للتطور الثقافي، وهو أمرٌ قد يُلبس بعض المثقفين التهمة حين يقفزون قفزات واسعة متجاهلين المراحل التي يمرّ بها المجتمع دون وعي بأنَّ قفزاتهم قد تبعد بهم عن أرض الواقع.
الورم الثاني: ضعف الجانب الإبداعي لدى المثقف المحلي، حتى غدت التكرارية والتلقي من الآخرين سمت بعض المثقفين.
الورم الثالث: انتفاء الهمّ الثقافي الذي يدافع عنه المثقف ويسعى لإجلائه، فقد يدور في دائرة من النرجسية والخيالية أو العبثية أو الحداثية وما بعدها، وهذا الانتفاء يجعل مساهمات المثقف هزيلة ضعيفة لا تصمد أمام تيارات العولمة وأعاصير التغريب.
الورم الرابع: وضع حدود بين الثقافة العربية والإسلامية، وهي حدود تدلُّ على ضيق أفق واضعيها في فهمهم الشامل لمفهوم الثقافة الإسلامية؛ ممَّا يؤدي إلى تهميش الأصول الثابتة التي ترتكز عليها الثقافة الإسلامية، وبالتالي تحييد قضية الولاء والبراء.
الورم الخامس: استلهام تجارب وثقافات الآخرين دون غربلة لما ينالنا ويمسّ ثوابتنا، ويدخل في ذلك أيضاً المحاور الثقافية التي يدور حولها النص والمصطلحات والجمل التي تعارض أسسنا وقيمنا.
الورم السادس: سعى بعض المثقفين إلى الإيهام بأنَّ هناك خطاباً أنثوياً خاصاً مع ما يجرَّه ذلك من رفض لصيغ الأمر والنهي الواردة في الشرع، والتي يدخل في محتواها الجنسين؛ إذ طالما ـ في فهمهم ـ أنَّ للأنثى خطاباً يوجه لها، فهي غير ملزمة بالخطاب الآخر، وفي ذلك نكسة وعصيان.
الورم السابع: شعور بعض المثقفين أنَّ العادات والتقاليد عنصر كبح لإبداعاتهم، ولهذا فهم يستغلون الفرص للخروج من إطاراتها إلى عوالم أوسع ومجالات أفسح للتقليد والالتحاق بركب الآخر، حتى وإن قاده ذاك الآخر إلى مصير منبوذ، فلا هو ابن أمته، ولم يشأ الآخر أن يتبناه.
الورم الثامن: عدم إدراك بعض المثقفين للحدود التي يجب أن يقفوا عندها في محاولاتهم التجديدية وكتاباتهم الأدبية والتاريخية، بل وحتى العلمية، فهناك حدود لا تمس وثوابت لا تجس، يجب أن يقفوا عندها؛ فالذات الإلهية والعبادات والقرآن وسيرة الرسول وتراجم الصحابة والتابعين وعاداتنا الأصيلة ولغتنا العربية ليست مجالات للتغيير والتبديل والعبث.
الورم التاسع: حصر مفهوم الثقافة بالدراسات الأدبية والنقدية والتاريخية، واعتقاد ذلك يُحجم مفهوم الثقافة ويضيّق أفق المثقف الذي هو إنسان مبدع.
الورم العاشر: المثقف مجدد، وهو إذا حمل همّ بيئته كان مفجراً لآمالهم معالجاً لأولادهم. وكثير من المثقفين لا يكونوا مماثلين للنابغة الجعدي أو الذبياني، وإنَّما تبدأ سيرهم الثقافية في صغرهم، فتتولاهم أسرهم رعاية واستنباتاً ورياً حتى تنهض هاماتهم الثقافية وتسمو سوقهم الإبداعية الإيجابية، ولا يتأتى ذلك إلا إذا أدركت أسرهم أنَّ مجتمعاً بلا ثقافة إيجابية أو مثقفين إيجابيين، سيستسلمون بلا وعي تحت وقع الإعجاب بالآخر.
الورم الحادي عشر: استعجال كثير من المبتدئين نشر إنتاجهم دون وعي لمدى نضجهم وكفاءتهم، ومن ثم قد تتلقاهم وسائل الإعلام بالدعاية والتلميع دون أن يكون ذاك المثقف قد حوى تجربة ثرة تمكنه أن يعرضها حيث يشمخ مغزاها ويسمو معناها مثلما يعلو إطارها اللفظي وبناؤها الشكلي.
الورم الثاني عشر: تجاوز بعض المثقفين أطر مجتمعهم، متناسين أنَّ الثقافة نتاج عقول الأمة، وهي أعظم راسم للهوية ومحدد للبناء المستقبل. وبمعنى أدق: كثير من المثقفين يتناسون أنَّ تمايز الثقافات يعني تمايز الأمم، وهو أمرٌ ينعكس على تمايز وجودها على الخارطة التاريخية.منقول